Najat Alshafie نجاة الشافعي

View Original

عطشُ الإسفلت

العمل الفني: نجاة الشافعي

عروس البحر


 

"أف! اللعنة....…" 

أحكمتُ إغلاق مزلاج لساني قبل أن يعلو صريره الحاد فتتطاير منه ألفاظ نابية عارية عن اللباقة تخدش براءة زميلاتي اللاتي تكدسن في مكاتب ضيقة كعلب السجائر 

 تلِجُ مدرسة العربي المنقولة حديثاً الغرفة، تتبعها دميتان نحيفتان ترزحان تحت عبء هضبتين شاهقتي العلو من الكتب والكراسات فتغيم قسمات وجهيهما الطفولية وتتراقص ضفائرهما بدون هوادة. بعض المعلمات غارقات في دوامة تحضير الدروس أو في تصحيح تلال الكراسات المكومة في كل مكان كأوراق شجر نزفتها غابة في منتصف الخريف. وأخريات يتباهينَّ بما تغص به قواريرهن من حكايات منمقة دفعاً لعربة الوقت للأمام. تبادلنَّ الأدوار في قص روايات شهية تسيلُ الخيال تارةً عن الخادمات الغارقات في بحور الكسل، وتارةً عن طلبات الأبناء التي لا تنضب، أو عن العلاقات الباردة مع الأزواج، أو الجارات ثقيلات الظل حين يهبطن فجأة بدون سابق موعد ويمكثن حتى وقت متأخر من الليل. أما معلمات العلوم فقد تنحينَّ جانباً وانهمكنَّ في الحديث حول طريقة إعداد بعض الأطباق المشهورة كالبيتزا والشيز كيك والموس بالشوكولاتة. لا شيء يعكرُ صفو الجو المخملي سوى ضجيج الطالبات الذي يقتحمُ عليهنَّ خلوتهن الحميمة 

كانت الجدران المتسلخة للمبنى القديم المستأجر تنفثُ رائحة الطعام المغرية في سماء الغرفة، لذلك كانت قطة سوداء تمؤ خارج الباب ليسعفنها بما تجود به أيديهن الكريمة. كنَّ قد انتهينَّ للتو من تناول وجبة الفطور حيث ارتشفنَّ رحيق الأطباق المتنوعة. بدأنَّ بالقهوة العربية والتمر، تلتها فطائر الجبنة واللبنة والزعتر والسبانخ والفلافل ثم الخبز الأفغاني-التميس- والفول المدمس والعدس وأنهينها بكيك الفواكه والشوكولاتة 

انتهزُ وقت الفسحة لمطالعة الجريدة اليومية على عجل. عادة أدمنتها منذ فترة المراهقة لشغفي بملاحقة أخبار الفنانين ولاعبي كرة القدم، لكن لم أشعر بعواقبها الوخيمة إلاَّ عندما بدأت تعتريني نوبات الكآبة من حين لآخر. أختي الكبرى تزجرني كلما رأتني متلبسة بالجرم المشهود وتصادر الجريدة من يدي قائلة: "يا الخبلة! ما قلت لك أن تتركي القراءة! أصلك غاوية شقاء وتضييع فلوس! طول عمرك حماره ما تسمعين الكلام!"

:أرد بصوت عال 

(!بكيفي! هذه حياتي) 

إعلان "بيرة باربيكان" طاووسٌ يختال زهواً على عرش صفحة الأخبار المحلية. شباب نزق يعتريهم مس من نشوة فائرة. يقودون سيارة ويلوحون بقبضات أيديهم في الهواء. يرسمون ضحكات مغتصبة على شفاههم بينما يرتشفون قناني البيرة بنهم 

في ذيل الصفحة توارى عن الأنظار أسفل الإعلان خبر ضئيل الحجم لا يتجاوز طوله أحد عشر سنتيمتراً هجرته أعين القراء كمن أصابه الجرب ففر عنه أعز الناس إلى قلبه

لقيتْ ثلاث معلمات حتفهن في طريقهن إلى مدرستهن بقرية نائية، أما السائق فنجا بأعجوبة ويرقد حالياً في المستشفى برضوض متفرقة. إحدى المعلمات حامل في الشهر السابع والثانية أم لطفلين 

عيناي شاخصتان على الصورة المرفقة بالخبر تتأرجحان بين تصديقه وتكذيبه. حافلة صغيرة تمزق ثوبها المعدني. انصهرتْ أحشائها وتدلتْ خارجها. دم لزج كثيف تجمع في بقع راكدة يروي أفواه فاغرة في جوف الإسفلت المتصدع. فتشتُ الصورة طويلاً لكن لا أثر لهن، يبدو أن عين الشمس قد أصابها القذى فلم تستطع أن تبصر أشلائهنّ الممزقة التي انتحبتْ يُتماً على صدر الرمال الدافئة

يدقُ جرس الخلاص. أرفعُ رأسي المدفونة بين صفحات الجريدة وألقي بها فوق رقبتي، لا تقوى على حملها فتخر صريعة على صدري، وتنزلق نظارتي فوق أرنبة أنفي. أتوكأ على عكازتي. أزحف كسلحفاة فقدت صدفتها  

التقطتُ عقب طبشورة صفراء. عادة ما تفرغ معدة الفصل من الطباشير البيضاء بعد الفسحة لأن معلمات الرياضيات والعلوم يزدردنها بشهية بالغة. كتبتُ بيد مرتجفة على السبورة: اقرأن درس المطالعة "يومُ الشجرة" صفحة ثلاثين قراءة صامتة ثم أجبن على الأسئلة في الكراسة 

تسمرتُ في المقعد المتهالك عند الباب. ما زالت تحدق بي حمائم ذبحت بخنجر مسموم في الظهر، وأفواه محفورة في الإسفلت تجلطت على شفاهها دماء زرقاء، وأقدام عارية لن تحث الخطى للفصل عندما يدق جرس الحصة. أحسست بدوار حاد يخنق أنفاسي

ضباب كثيف يسرق البصر. نهوي بخفة في الأخدود كريش متساقط من جناحي عصفور. يتهشم زجاج الحافلة ثم يتفتت كرذاذ الطباشير. الشظايا تكشر عن أنيابها. جسدي صباره متشققة تتصبب منها حمم الدماء. شلال ماء يتدفق بين فخذيي. الأنابيب تغزو شراييني. الأربطة ثعابين تلتف حولي..حلقي جاف ككثبان الربع الخالي. ثقب غائر ينهش أحشائي. توقف كل شيء عن الدوران 

:كسرتُ موجة السكوت. باغتهن بسؤال ينضح مرارة

"ماذا تردنّ أن تصبحنّ عندما تكبرن؟" 

:دارت أجوبتهن بشكل آلي 

"ربة منزل، طبيبة، مهندسة، محامية، سيدة أعمال، مديرة، رسامة، مهندسة ديكور، ممرضة، مبرمجة كمبيوتر، كاتبة، مصورة…"  

:خاطبتهن بقلب وردة قطفت غدراً 

"ماذا عن التدريس! التعليم مهنة إنسانية نبيلة. مَنْ تودُ أن تصير معلمة؟"

 نظرن إليّ بإشفاق بالغ. بدوت لهن كفأرة مذعورة تقرع جرساً ألتف حول رقبتها لتحذرهن من القطة الجائعة التي ستلتهم أحلامهن. مرت دقيقة حداد أتشحن فيها بالصمت. ثم أطرقن برؤوسهن مرتعبات من منظري الساخط، وتشاغلن بالإجابة عن الأسئلة في كراريسهن حتى نهاية الحصة 

أقفلتُ عائدة للمنزل أتصبب عرقاً مراً في ظهيرة حارقة تلهبُ عباءتي السوداء بسياطها المازوشستية لتطهرني من خطايا الزمن الرديء. الإسفلت ينتصبُ واقفاً، يضحك علي ويمد لي لسانه. يمسك بقارورة بيرة باربيكان، يرتشفها بشغف. يترنح فيندلق من فيه قطران مشتعل. تذوب قدماي ثم تلتصقان معاً كذيل سمكة 

انزلقت على الرصيف. امتزجت ببخار الماء. تحولت إلى فقاعة صابون ملونة ترتقي المنحدر

 

كتابة: نجاة الشافعي

4/4/2007 م