المقهى أم الممشى

حوار في الممشى

زوجة أعلنت براءتها من زوج عقيم

لاكت سمعتي الألسن. صَبَّوا جَامَ غَضَبِهِم عَلَيْ، من يعرفني ومن لا يعرفني. هجرنني حتى الصديقات، وعشت وِحدَة مطبقة فتكت شيئاً فشيئاً بأعصابي؛ لذلك أدمنتُ الحبوب المهدئة وتحسين المزاج. وبعد أن مهدوا الطريق، وصبوا فيه الاسفلت صار هناك ممشى للحيّ. صار المشي رفيقي الدائم، سلوتي وعزائي. وعاد قلبي ليحيا بما أسقيه فيه من أمل، وفي الممشى قدمت دعوة مفتوحة لرجل آخر ليقطع الطريق معي بعد أن هدأت عواصف الداخل والخارج.

 

جلسنا نلتقط أنفاسنا بعد أن ذرعنا الممشى ذهاباً وإياباً خمس مرات. كانت لقاءاتنا كلّها عن طريق الصدفة المتعمدة. أشاهده من شرفتي يذرع الممشى فأسارع بالنزول. عندما نلتقي كلانا يصطنع الدهشة. أول مرة أنا دعوته للمشي ثم صار يجيء بمحض إرادته، ومع مرور الأيام أدمنّا المسير في طريق طوله كيلومتر واحد مرصع بشجيرات الورد والنخيل.

 

في أول سيرنا أصاب شفتيّ الخدر. في داخلي أنثى جريحة يصعب عليها البوح. بدأ هو الحديث بعد مسير صامت. قال متوجساً:

 

ـ اًقول لج شي..

 

- أرجوك! وقع العامية على أذني نشاز.

 

- حسناً! عزيزتي. أصارحكِ بأمر ما؟

 

- تفضل.

 

حسبته سيخبرني بما سمعه عني من أقاويل لكنه قال:  

 

- أنتِ أول امرأة تدعوني إلى الممشى بدل المقهى!

 

- أتحب المقاهي؟

 

- أرتادها مع أصدقائي.

 

- بالنسبة لي الممشى ملتقى والمقهى مفترق، والمسافة بينهما قد تطول أو تقصر.

 

- متى بدأتي المشي؟

 

- منذ زمن بعيد. الأحياء فقط يمشون!

 

- متى تمشين؟ كل يوم؟

 

-حسب مزاجي.

 

-أليس من ثوابت؟

 

- لا! يعتمد!

 

- أنت غريبة.

 

- أنا مزاجية.

 

- في أول جملة تبادرين: مزاجي سيء، أو مزاجي رائق، أو شبه متعكر، أو حزين، أو لم أنم كنت أفكر في مشاكل العالم. تصرّحين بحالتك النفسية مثل قارئ نشرة الطقس.

 

- لأنك لا تقرأ ما بين السطور.

 

شعرتُ بأنه تضايق ولاذ بالصمت. مشينا بتؤدة، وبدا ظلينا طويلين كقامات النخيل. انتشلتهُ من حالة التوجس:

 

-  أصارحكَ بأمرٍ ما؟

 

-  ماذا؟

 

- أشعر بأن الكلام معكَ يختلف عندما نمشي عما لو كنا جالسين.

 

- كيف؟!

 

- ألا تشعر عندما نمشى بأن التراب يبتهج لوقع خطانا، أن كل نخلة تنتظر أن نمر بها لتصافحنا، أن السماء تنصتُ إلى حكاياتنا، مسيرنا مثل لحن شجي تتناغم فيه حركة اللسان بالقدم بالقلب بالكون.

 

- كأنكِ تبالغين!!

 

- بلّ أبسّط. أليست الأرض دائرية؟

 

- ويعني؟

 

-إذا مشينا من نقطة نعود إليها، وإذا افترقنا سنلتقي. أليس العالم صغير؟  

 

- نكتشف أن العالم صغير جداً حين نعبر جزءً منه.

 

- والعكس صحيح.

 

- لا تكوني متشائمة، الفراق لن يحصل! أنت محور دائرتي.

 

- هل تعني كل ما تقول، وتقول كل ما تعني؟

 

- بالتأكيد! وأنتِ؟

 

- أنا.. أنا أقول ما لا أعني، وأعني ما لا أقول.

 

- هذا طلسم.

 

- أليست الحياة طلاسم؟!

 

- غموض أحياناً، وليست طلاسم. أنا واضحٌ كالشمس، أما أنتِ فغامضة كوجه القمر الخفي.

 

- بل يقال إن الرجال من المريخ والنساء من الزهرة، وأننا نفصح عن مشاعرنا بينما أنتم تخفونها. أتدري أيها المريخي نسيتُ أن أسألك ما هو لونك المفضل، أو متى عيد ميلادك أو كتابك المفضل، ووو..؟

 

- أيتها الزهرة. أنتِ لوني المفضل، ولادتي عندما عرفتكِ، وأنتِ كتابي، وأنتِ صديقتي و..

 

- إذاً أنتَ من انتظرته طويلاً، فليس لي رفاق.

 

غالبتُ دمعةً مدويةً كادت تسقط فيسمعها. ارتجفتْ يدي:

 

- لا أدري لم أشعر بالبرد رغم أن في داخلي كتلة من اللهب.

 

قدم لي معطفه فغصت في رائحته.. مخدّرة مثل زهر الليمون. رائحة تشبه رائحة أبي.

 

في المذياع تصاعد صوت ناعم للمذيعة:

 

- الخطوط مفتوحة! ستُغلق بعد قليل.

 

- أسمعتِ ما تقول؟

 

- تقول الخطوط مفتوحة.

 

- أي خطوط؟ الحمراء؟

 

- الهاتف طبعاً.

كتابة ورسم نجاة الشافعي

المقهى أم الممشى

المقهى أم الممشى

 

زوجة أعلنت براءتها من زوج عقيم! لاكت سمعتي الألسن. صَبَّوا جَامَ غَضَبِهِم عَلَيْ، من يعرفني ومن لا يعرفني. هجرنني حتى الصديقات، وعشت وِحدَة مطبقة فتكت شيئاً فشيئاً بأعصابي؛ لذلك أدمنتُ الحبوب المهدئة وتحسين المزاج. وبعد أن مهدوا الطريق، وصبوا فيه الاسفلت صار هناك ممشى للحيّ. صار المشي رفيقي الدائم، سلوتي وعزائي. وعاد قلبي ليحيا بما أسقيه فيه من أمل، وفي الممشى قدمت دعوة مفتوحة لرجل آخر ليقطع الطريق معي بعد أن هدأت عواصف الداخل والخارج.

 

جلسنا نلتقط أنفاسنا بعد أن ذرعنا الممشى ذهاباً وإياباً خمس مرات. كانت لقاءاتنا كلّها عن طريق الصدفة المتعمدة. أشاهده من شرفتي يذرع الممشى فأسارع بالنزول. عندما نلتقي كلانا يصطنع الدهشة. أول مرة أنا دعوته للمشي ثم صار يجيء بمحض إرادته، ومع مرور الأيام أدمنّا المسير في طريق طوله كيلومتر واحد مرصع بشجيرات الورد والنخيل.

 

في أول سيرنا أصاب شفتيّ الخدر. في داخلي أنثى جريحة يصعب عليها البوح. بدأ هو الحديث بعد مسير صامت. قال متوجساً:

 

ـ اًقول لج شي..

 

- أرجوك! وقع العامية على أذني نشاز.

 

- حسناً! عزيزتي. أصارحكِ بأمر ما؟

 

- تفضل.

 

حسبته سيخبرني بما سمعه عني من أقاويل لكنه قال:  

 

- أنتِ أول امرأة تدعوني إلى الممشى بدل المقهى!

 

- أتحب المقاهي؟

 

- أرتادها مع أصدقائي.

 

- بالنسبة لي الممشى ملتقى والمقهى مفترق، والمسافة بينهما قد تطول أو تقصر.

 

- متى بدأتي المشي؟

 

- منذ زمن بعيد. الأحياء فقط يمشون!

 

- متى تمشين؟ كل يوم؟

 

-حسب مزاجي.

 

-أليس من ثوابت؟

 

- لا! يعتمد!

 

- أنت غريبة.

 

- أنا مزاجية.

 

- في أول جملة تبادرين: مزاجي سيء، أو مزاجي رائق، أو شبه متعكر، أو حزين، أو لم أنم كنت أفكر في مشاكل العالم. تصرّحين بحالتك النفسية مثل قارئ نشرة الطقس.

 

- لأنك لا تقرأ ما بين السطور.

 

شعرتُ بأنه تضايق ولاذ بالصمت. مشينا بتؤدة، وبدا ظلينا طويلين كقامات النخيل. انتشلتهُ من حالة التوجس:

 

-  أصارحكَ بأمرٍ ما؟

 

-  ماذا؟

 

- أشعر بأن الكلام معكَ يختلف عندما نمشي عما لو كنا جالسين.

 

- كيف؟!

 

- ألا تشعر عندما نمشى بأن التراب يبتهج لوقع خطانا، أن كل نخلة تنتظر أن نمر بها لتصافحنا، أن السماء تنصتُ إلى حكاياتنا، مسيرنا مثل لحن شجي تتناغم فيه حركة اللسان بالقدم بالقلب بالكون.

 

- كأنكِ تبالغين!!

 

- بلّ أبسّط. أليست الأرض دائرية؟

 

- ويعني؟

 

-إذا مشينا من نقطة نعود إليها، وإذا افترقنا سنلتقي. أليس العالم صغير؟  

 

- نكتشف أن العالم صغير جداً حين نعبر جزءً منه.

 

- والعكس صحيح.

 

- لا تكوني متشائمة، الفراق لن يحصل! أنت محور دائرتي.

 

- هل تعني كل ما تقول، وتقول كل ما تعني؟

 

- بالتأكيد! وأنتِ؟

 

- أنا.. أنا أقول ما لا أعني، وأعني ما لا أقول.

 

- هذا طلسم.

 

- أليست الحياة طلاسم؟!

 

- غموض أحياناً، وليست طلاسم. أنا واضحٌ كالشمس، أما أنتِ فغامضة كوجه القمر الخفي.

 

- بل يقال إن الرجال من المريخ والنساء من الزهرة، وأننا نفصح عن مشاعرنا بينما أنتم تخفونها. أتدري أيها المريخي نسيتُ أن أسألك ما هو لونك المفضل، أو متى عيد ميلادك أو كتابك المفضل، ووو..؟

 

- أيتها الزهرة. أنتِ لوني المفضل، ولادتي عندما عرفتكِ، وأنتِ كتابي، وأنتِ صديقتي و..

 

- إذاً أنتَ من أنتظره طويلاً، فليس لي رفاق.

 

غالبتُ دمعةً مدويةً كادت تسقط فيسمعها. ارتجفتْ يدي:

 

- لا أدري لم أشعر بالبرد رغم أن في داخلي كتلة من اللهب.

 

قدم لي معطفه فغصت في رائحته.. مخدّرة مثل زهر الليمون.

 

في المذياع تصاعد صوت ناعم للمذيعة:

 

- الخطوط مفتوحة! ستُغلق بعد قليل.

 

- أسمعتِ ما تقول؟

 

- تقول الخطوط مفتوحة.

 

- أي خطوط؟ الحمراء؟

 

- الهاتف طبعاً.

لا نَمُلّ في غزة

 

في غزة نسير بين الحطام، نودع قوافل الراحلين، نصطلي بجمر الفراق، نحمل لفائف أكفاننا، نكتب أسماؤنا على أجسادنا، وننتظر دورنا على أحرّ من الجمر.

 

بحث ابني عن نملة يطعمها فتات الخبز. أحبّ النمل منذ كان لديه مشروع العلوم في الأول الابتدائي. خاطبته: ابني ليس لدينا خبز كاف وأنت تطعم النمل. ماما منذ يومين لست أجد نملاً، ربما أختنق بسبب التراب الأبيض أو أنه سافر. ونحن متى سنسافر؟ قلتي لي سنسافر قريباً، وكتبتي اسمي على ذراعي وساقي وصدري وظهري وجبيني وفوق كل شبر من جسدي حتى لا أضيع في المطارات. أجبته: قريبا! ننتظر الأذن بالعبور. حين يصلنا سنسافر فوراً.

 

بدأ ككل مرة يحدثني عن النمل نفس الكلام لا يَمَلّ منه. النمل مخلوق عجيب متعاون ومثابر، هناك ١٢٠٠٠ نوع مختلف من النمل. يبني مستعمرات ويزرع مثل الإنسان وله ملكة. عندما تموت الملكة، تموت بقية المستعمرة بعد بضعة أشهر. مثلكِ ماما. أنت ملكة المنزل منذ سافر أبي. تأمرين وتنهين وتحضرين كل ما نحتاجه من أغراض للمنزل

 

قرقعت ضحكتي في أجواء السكون المطبق ما بين الغارات، الصمت المريب الذي يشي بالمزيد من القصف والدمار.

 

كنا نجلس مختبئين تحت الطاولة ونتبادل الحديث. رميت بجسدي عليه عندما سمعت صوت انفجار هزّ العمارة فاستحالت رماداً.

 

سافرتْ أمي قبلي. وأنا سأسافر بعدها. أجهشتُ بالبكاء، ورسمتُ على ذراعها نملاً، وكتبتُ: أمي الشهيدة ملكة النمل.

 

كتابة ورسم: نجاة الشافعي

٣٠ أكتوبر ٢٠٢٣م

بشارةُ فلسطين

بشارة فلسطين

أجنبي كان في بقالة الحي يبتاع العصير. سمعه جمع من الأطفال يرطن باللغة الإنجليزية مع البائع.

جاءته طفلة جريئة ذات جديلتين طويلتين. سألته بفضول: فلسطين، إسرائيل؟

باغتته بسؤالها. أبتسم لها وأجاب: فلسطين! كررت مبتهجة: فلسطين!! رقصت جديلتيها. تحول وجهها كله إلى ابتسامة عريضة انشقت من النور. عادت للأطفال تبشرهم بفلسطين.

رسم وكتابة: نجاة الشافعي

٢٩ اكتوبر ٢٠٢٣م

!لغة عربية أجنبية

انصبت انظارهم عليّ، مدرستهم ذات النظارة السميكة.

 

أشرح لهم درس الإنجليزي الجديد عن الغذاء في الوحدة السابعة. وصلنا إلى كلمة

: destroy

يعني: يدمر/يهدم/يحطم/يتخلص من.  

كتبتها بيد مرتجفة على السبورة في جملة نقلتها من الكتاب. وضعتُ تحت الكلمة خطاً بالأحمر: "الشركة يجب أن تتخلص من آلاف معلّبات الحساء الغير صالحة للاستهلاك الآدمي".

The company needs to destroy thousands of cans of soup because they're unsafe to eat.

 

خانني التعبير، تلعثمتُ.. ألّف وأدور: تُهَدِّمُ بيت.. أخاتل: تُدَمِّرُ بناية.. أرواغ: تُحَطِّمُ عائلة..

 

نظرتْ إليّ إحدى طالباتي باشمئزاز. قالت عنوة: ماتوا بدون ما ياكلوا!!

الخَبَرُ الحَيّ

 

خرجتُ إلى الخبّاز لأبتاع تسعة أرغفة حيّة. يقع المخبز في الطرف الأقصى من البلدة بجوار المسجد ذي القبة الذهبية الذي يتوسط حقلاً من أشجار التفاح والزيتون. أمرّ في طريقي إلى الخبّاز بالكثير من المحلات الصغيرة ثم أعبر السوق المفتوحة في ساحة البلدة التي يفترشها البائعين والبائعات يعرضون بضائعهم الطازجة والبائتة.

 

كان الجو خريفياً بارداً فاعتمرت قبعة صوفية، وارتديت معطفاً سميكاً. البقالّ أول من مررت به؛ لكن في مكانه وجدت شخصاً آخراً لم أعرفه، أصلعاً حليق الشارب واللحية. هل أنت جديد؟! ضحك: ألم تعرفني؟! لا! تغيرت كثيراً! ابتعتُ منه قارورة حليب صغيرة وأنا مندهش: لم يقم بحلاقة شاربه من قبل!

 

لم ألقي بالتحّية على الجزار كعادتي لأنني عندما مشيتُ بمحاذاته شممتُ رائحة مقززة، وكأنها لفئران ميتة فابتعدت عنه.

 

تذكرت.. أحتاج قلماً ومحبرة فلقد جفت أقلامي فتوقفت عند باب القرطاسية. نظرتُ عبر الزجاج ولم أجد أبو رائد. دخلت المحل وناديت: أبو رائد.. أبو رائد! فأجابني طفل لم يبلغ الرشد: أنا رائد! رائد؟! نعم! أبي لن يحضر اليوم. مريض! تفضل! لكن أبو رائد أخبرني أن ابنه يرتاد الجامعة! ربما خانتني الذاكرة. اِبتعتُ ثلاثة أقلام رصاص، وقلم حبر، ودواة حبر، وحزمة أوراق صفراء، وكعادتي الجريدة اليومية، فقد تحمل أخباراً طازجة.

 

نسيتُ أنّ الطقس بارد، وانتبهت عندما مررتُ ببياع الأحذية إنني أرتدي نعال الحمام. غمرني الخجل من قمة رأسي إلى أخمص قدمي: ماذا سيقول الناس! غطيت قدمي بطرف الجريدة. جلست سريعاً لئلا يرى قدمي البائع المخضرم: إحسان. أحضر لي زوجاً صينياً فارتديته على عجل عندما أدار ظهره ليبحث عن زوج آخر.

 

تجاوزت محلي الأقمشة والملابس الجاهزة فلحسن حظي زوجتي كانت نائمة عندما خرجت، ولم ترهقني بأية طلبات: إبر، خيوط، قماش بمربعات أو مُقلّم، جلابّية مطرزة بزخارف يدوية، الخ...

 

وصلتُ الساحة التي تضجّ بالحياة. طوفانٌ من البشر: الباعة، والمشترين، والمتفرجين، والمشردّين، والروائح تتصارع في الهواء؛ لكنها تخلو من الأطفال. اليوم جمعة يبدو أنهم ما زالوا نائمين.

 

لم أشرب الشاي قبل الخروج من المنزل فتوقفت عند عربة بائع الشاي على الفحم. أعطني شاياً، وزد ثلاث ملاعق من السكر! ارتشفت رشفة حارة أحرقت لساني، طعمه كان مقززاً كالقيء فسكبته في قارعة الطريق.

 

اشتهيتُ البيض عندما مررت بالبائعة المتلثمة فاشتريت ست بيضات مرقطة بالأسود بحجم بيض النعام لكنها أقسمت إنه بيضُ دجاجٍ فاخرٍ من الدرجة الأولى تربيه في مزرعتها. إن كنت سأعدّ لي ولزوجتي شكشوكة للفطور سأحتاج للطماطم والبصل. عند بائع الخضروات توقفت لكن كلّ الطماطم كانت فاسدة فلم أشتريها، وبحثت عن البصل ولم أجد ولا بصلة واحدة في كلّ السوق. انقرض البصل!

 

مررت بتلة من القاذورات، ورأيت ماعزاً تمضغ الأوراق. خالجني الأسى فأسقيتها قنينة الحليب. سأشتري قنينة أخرى في طريقة عودتي لئلا تثور زوجتي، وتسوّد يومي.  

 

أخيراً، وصلت إلى الخبّاز؛ لكنه كان مُغلقاً على غير عادته. أصابني التوتر: هل تأخرت إلى هذه الدرجة فنفد الخبز؟! هل مات قريبٌ له فأغلق المحل؟! ماذا سنأكل في الفطور؟! خبزٌ بائت!!!

 

افترشتُ الجريدة. جلستُ على دكة المخبز يائساً. وضعت يديّ فوق رأسي أفكر بأمرّ الأرغفة الميتة. ستستيقظ زوجتي وتعاتبني على تأخري. مرّ بي بائعٌ قزم اشتريتُ منه علبة سجائر، ورغم إني أقلعتُ عن هذه العادة الذميمة؛ لكن استنشاق النيكوتين، والإمساك بواحدة بين السبابة والإبهام كعادتي السابقة خففّ من قلقي.  

 

سمعتُ المذياع يزمجر.. دويّ المدافع.. وابل من الصواريخ.. انفجار قنابل فسفورية.. أزيز طائرات عمودية.. انهيار عمارات سكنية فرميت بالسجائر القاتلة وهرستها بكعب حذائي الصيني الجديد.

 

في تلك الأثناء سمعت من أحد المارة أن أهل الحي أعدّوا عدّتهم لحفلة تنكرية. لُذّت بالفرار. لا أحب التجمعات الصاخبة. ركضت صوب الحقل. أردت الدخول إلى باحة المسجد، ووجدت الباب مغلقاً في وجهي فساعة الظهر لم تَحُنْ بعد. كانت بعض أشجار الزيتون والتفاح نافقة؛ لكني لم أجد ماء لأسقيها.

 

هبّت عاصفة صحراوية فسدّ أنفاسي الغبار الأبيض. صنعت لي كمامة من الأوراق الصفراء غطيت بها أنفي وفمي.

 

لحقت بي جماهير الحفلة التنكرية. حاصرتني الأقنعة. قناع يسقط، وقناع يرتفع، وقناع يتمزق، وقناع يُحاك، وقناع المهرج أتقدّ، وأحمرّ كفرن الخباز. حينها شهقتُ، بكيتُ، وندبتُ الخُبْزَ الحيّ!

 

١٣ أكتوبر ٢٠٢٣م

نجاة الشافعي

 

 

 

 

 

الثور


استاءتْ جدتي من جلوسها في قاعة الانتظار لمدة طويلة، وقدماها محنطتان فوق دواستين ملتصقتين بالكرسي المتحرك. في رأسها قد تسارع الزمن في دورانه فغدت السنين أياماً، والأيام ساعات، والساعات دقائق. تجمدّت إحدى قدميها، وبدأ سِرْبٌ من النمل يدبّ في أعصابها. هزّتها بشدة لتتدفق الدماء فتُغرِق هذا الجيش المتحرك.

 

أصابت جدتي جلطة في دماغها عقب عملية فتح الشريان الأورطي المنسّد في قلبها الهرم. وبعد الجلطةُ أنعقد لسانها. تحاول جاهدة أن تَستحلِب من ذاكرتها المفردات المتسقة مع المعاني التي تستذكرها في رأسها فلا تنطق إلاّ بأحاجيّ يصعُب فكّها. تتفوه أحياناً بعباراتٍ لا تَمُّت لما تَرمِي إليه بِصِلَّة. كلمة "العسل" الذي تحبه تنقلب إلى "فف..حح..ممم" و"موز" إلى "رر..ااا..زز".

 

تهتاجُ كلما أخبرتها أمي عن مواعيدها. حين تسمع كلمة "دكتور" تتذكر ساخطة عملية القلب التي أدت للجلطة فتكرّر كالممسوسة، وبصوت عالٍ: ثثووووررر!! خوفّناها أنا وأخي بأنه لو سمعها الناس تسمي الطبيب ثوراً ستعتبر بمثابة إهانة قد تتسبب في عقابها ودفع غرامة للتعدي على الطبيب. لجمت لسانها الثقيل ليس خشية من ذلك، بل خشية من أن نحرمها من الشكولاتة التي تعشقها.

 

سألتْ جدتي: كم الساعة؟! لكن همهمتْ وتمتمتْ بكلمات مبتورة: ...سا سااا ساا!!

 

فَهِمتُ ما تريده فأجبتها مُصطَنِعة اللطافة أمام حشد المنتظرين في القاعة المكتظة بالمرضى ومرافقيهم. رفعتُ صوتي قليلاً لتسمعني جيدًا. تأنّيتُ في النطق: ااص ص ب ب رريي! ناولتها برقّة زائدة عن المعتاد سندويشة لبنة، قنينة ماء صغيرة، والدواء. ألهاها تناول الطعام والشراب قليلاً، وسرعان ما دخلت في حالة من الاستياء بعد أن التهمتْ السندويشة بثلاث لقمات دفعة واحدة. ثم أعطيتها موزة فازدردتها متعجلة. سكتتْ تُحدّق في الوجوه، تنصتْ للممرضات بالزيّ الأبيض يذرُعن الدهليز المؤدي لغرف الأطباء ويصُحن بأسماء المرضى.

 

ااص ص ب ب رريي! كررتها عشرات المرات في هذا الصباح الطويل كلما سألتني عن الوقت. صارت تسببُ لها ضيقاً فتلوّح بيديها وتُتمتِم متذمرةً بكلام متشنج غير مفهوم. رغم علو صوتها وغرابة ما تتلفظُ به تجنب قلّةٌ من المرضى المهذبين النظر إليها لئلا يتسببوا لها بالإحراج، وتلاهى البعض الآخر بوضع سماعات في آذانهم تجنباً للإزعاج.

 

أخبرتها أمي منذ الليلة الماضية أنها ستذهب لموعد في المستشفى مع طبيب القلب، وعليها الاستيقاظ باكراً. هزّت رأسها ممتعضة. صرخت عدة مرات: ل لل اااااا. ثثث ووو ررر!!. عادة ترافقها والدتي للمستشفى لكنها كانت مصابة بالأنفلونزا فألقت عليّ المسؤولية كعادتها لأني البنت الكبرى التي تتحمل العبء الأكبر في العائلة.

 

أيقظنا جدتي رغماً عنها قبل صياح الديك. انتشلناها بمعونة الخادمة من سريرها حيث تتمدد كمسطرة متخشبة. صفّفنا شعرها الأبيض المجعد. ألبسناها ملابسَ مكوية، وعباءة حريرية لامعة، وأساور ذهبية. بخرناها بالعود في اهتمام مبالغ فيه بأناقتها. وضعناها في مقعد السيارة الخلفي، تلهث وتئن وترتجف. أنزلناها عند الباب. أجلسناها بصعوبة في الكرسي المتحرك. دفعناها في ممرات تضيق من شدة الزحام، تتصاعد فيها رائحة القهوة العبقة والطعام الشهي ممتزجة بروائح العرق الزنخة والمنظفات الرخيصة.

 

سحبتُ قِشرةَ الموزة من بين أصابعها المتشنجة. غفت لدقائق معدودة، وتصاعد شخيرها. ثم جاء دورها.

 

ادخلتها إلى الطبيب البارع المتخصص في القلب والذي أجرى لها العملية. شعرتُ بالحرج الكبير عندما بدأت ترفع صوتها بانفعال: ثثث وو ووو ررررر!! كدت أن أنهرها: اسكتي!!  فجأة.. أصابني الذهول عندما رأيت صورة معلقة على الجدار خلف الطبيب. حلبة مصارعة يتجمهر فيها حضور غفير يتوسطها ثورٌ يقفز متحدياً مصارع الثيران المُرتعِب منه والرماح مغروسة في ظهره كالأعلام، بينما الدماء تسيل من جسده.

 

نجاة الشافعي

Black & White

I am half half

black & white.

 

sometimes I say

my mother is a black knight flying a kite

my father is a white kite flying at night

sometimes I say

my mother is a white kite flying at night

my father is black as a knight flying a kite

 

I am a mixed race,

so, it does NOT matter who is a black & who is white!

which side of the moon is dark & which side is bright!

I am the 2 sides in a shiny night full of stars.

 

I keep the secrets hidden in my eyes

throne under my colored skin that never dies

pebbles obstructing my throat

signs on my face, hands & feet

hangers of my coat in the street

ME ME ME is my beat

black & white!


Writing and drawing: Najat Alshafie

الفأرُ الأسد

الفأر قذر لكن ذكي .. الفأر قارض سريع الحركة.. الفأر سريع الهرب..

 

سماه أحدهم "الفأر" فتطايّر اسمه بين الناس، وذاع صيته: الفأر راح.. الفأر جاء.. الفأر قادم.. الفأر والفأر والفأر.. وهو يهز ذيله، وينفخ صدره، ويقفز فوقاً وتحتاً، يميناً وشمالاً، تارة يختبأ، وتارة يظهر، وتارة ينهب الجبن، ويستمتع بمضغه، وتارة لا يَمَسّه، الفأر يراوغ..

 

الفأر لا يأكل بطريقة الفئران. الفأر شره. يحب البصل والثوم واللحوم، وزيت الزيتون ويعصر الكثير من الليمون، ويقضم قرون الفلفل الحار فيطفئ اللهب بالماء البارد جداً.

 

الفأر يدخن ويدخن ويدخن بشراهة.. ويلقي بأعقاب السجائر.. في المخادع.. تحت الأسرة.. فوق المخدات.. بين الشراشف.. على مساند المقاعد..

 

عندما يعود تَفرُك الفأرة عيناها، تقوم من نومها لتسخّن له العشاء، يغضب منها:

- أنا الفأر!! حتى وإن أتيت متأخراً لا تنامي!

 

وعندما تضع مساحيق التجميل

- يا فأرة! لمن وضعتيها! لم أكن موجوداً! امسحيها!

 

وحين لا تضع المساحيق:

- يا فأرة! سُحنتك كالحة! ضعيها! أنا الفأر! أنا موجود!

 

الفأر ينام بطريقة خاصة، يستلقي على ظهره، ويضع رجلاً على رجل، ويتفرج على (التيك توك) حتى الفجر ويصل شخيره حتى الغابة البعيدة..

 

ذات يوم سقط الأسد في الشبكة.

 

الفأر بطل.. الفأر منقذ!!

 

قرضَ شبكة الأسد لأن الفأر ماهر وأسنانه حادة لاسيما قواطعه وزئير الأسد أوجع رأسه؛ لكن الأسد ناكر الجميل عندما تحرر من الأسر جاع جوعاً شديداً فالتهمه بِدْءًا برأسه ولم يدع سوى ذيله.

 

تندر أهلّ الحي على الأسد واسموه فأراً، وفي البئر رأى له ذيلين يهشّ بهما الذباب، وتقلص حجمه حتى دخل في جحر ضَبّ.

 

نجاة الشافعي

٦ / ٦/ ٢٠٢٣ م

 

ملاحظه: أود التنويه إن الموقع لا يتوافق مع أدوات الترقيم العربية 

 

رحلة عابرة للتذوق

رحلة عابرة للتذوق

تحسستُ جلدها الأملس، ضغطتُ عليها برقة فأصدرت آهة خافتة تخطِبُ ودّي فاستجبتُ لإغوائها، وأبقيتها ملتصقة بي طوال رحلتي والتي استغرقت حوالي الساعة.

قضمتُ لقمة من الكيكة الهشة التي سريعاً ما ذابت في حلقي. استمتعتُ بمضغها، وأنا أحتسي الشاي في كوب ورقي، ليته كان من زجاج بلوري شفاف لأثمل بمراقبة مكعبي السكر يتعانقان ثم يذوبان شيئاً فشيئاً في أحضان المياه الحارة، وقطرات الشاي الساحرة تتراقص طرباً في حلقات صوفية بديعة في داخل الكأس.

من المؤسف إن كل شيء تقلص على متن هذه الخطوط، حجم المقاعد، عدد الحقائب ووزنها، وحتى الوجبات أصابتها النحافة ماعدا سعر التذاكر الذي لم تصبه إلا الشراهة؛ لكن لحسن الحظ ظلّ طعم الكيك لذيذاً؛ ليس بالحلو الذي يصعقك بحلاوته فيستحيل حامضاً في فمك بعد أن تمضغه، وليس فاقداً للسكر فلا تطيق بلعه. ما زالتْ –لله الحمد— مخبوزاتهم الفاتنة الممتشقة القوام تدغدغ حليمات التذوق فتنعشني في رحلات العمل المملة.

انتهت المضيفتان الشاهقتي الطول من جمع ما تبقى من هياكل الوجبات. ثمّ صاح الرُبَان بصوت حازم باللغة الإنجليزيةــ بما معناه: اجلسوا أيها المضيفون! سنهبط الآن! وفي تلك الأثناء انتهيتُ من ارتشاف آخر قطرة شاي، وأبقيتها معلقة في فمي لعدة ثواني قبل أن تنزلق دافئة في بلعومي، وعندها قلّبتها بين كفيّ أتأملُ ما نُقِشَ في جسدها من حروف وصور.

لامستْ عجلتا الطائرة الأسمنت الصلب، واهتزّ ذيلها فانتفضنا في مقاعدنا نفضاً، وانقضّ على مسامعنا صرير حاد، صاحبه بكاء طفل رضيع في المقعد الأمامي.

أعلن أحد المضيفين بلهجة مستعجلة: الحمد لله على السلامة! نود تزكيركم بالتزام مقاعدكم حتى تتوقف الطائرة، سعيدون جداً بخدمتكم، نراكم قريباً على متن إحدى طائراتنا.

وأعقبها متحدثاً بالإنجليزية الركيكة:

Sank you for travel wiz us! Please remain in your chair, we are please to serve you, see you soon in one of our flitz!

عندها سارعت بالوقوف فَهَوَتْ من حضني، طقطقتْ عظامها، واستقرتْ على الأرض تسلّم أنفاسها الأخيرة، وأنا أهرول لباب الطائرة جاراً حقيبتي الثقيلة.

كتابة وتصوير: نجاة الشافعي

.تنويه: أدوات الترقيم غير دقيقة بسبب إن الموقع ــ للأسف ــ لا يتوافق تماما مع اللغة العربية

تصوير نجاة الشافعي مدينة الدمام ،٢٠١٤م