السير يصنع الطريق

حور الممشى

السير يصنع الطريق

اليوم كان مختلفاً جداً. أثناء سيرنا ناجتنا الغيمات الكالحة السواد فأنصتنا لها. أخبرتنا عن الشجن الأزلي في العالم، الصغار الذين تسرق أحلامهم فيكبرون أيتام الأمهات والأمل، الشيوخ الذين يهرمون بدون أبناء، المنفيون عن الأوطان، المحرمون من الفرح، البيوت التي بدون سقوف، الأسوار العالية، وتفجرت الغيمات أسىً فسالت مدامعها. واصلنا سيرنا في الممشى، تحت المطر. عندما وصلنا إلى ٥٠٠ متر خاطبته بصوت ماطر:

- أشعر إني غريقة.

- المطر ذكركِ بالغرق؟ ليس غزيراً!

- منذ قرأت تغريبة القافر، شعرت بأني الغريقة نفسها، أضع رأسي في الماء لينطفئ الوجع ولا ينطفئ . حاولت بكافة الوسائل ولم تنجع، أصابني اليأس فرأسي دائماً ثقيلة كالجبل.

- لم أقرأها الرواية بعد. دورها قادم، لكن الوجع جزء من الحياة ربما يدفعنا لأن نكون حالمين نأمل في يوم جميل مثل هذا اليوم الماطر.

- بالمناسبة، هل أنتَ من أنصار الرواية أو القصة؟

- أحب القصص قصيرة أم طويلة. القصة القصيرة زاوية في شارع طويل، والرواية هي شارع طويل ببشره وبناياته وتفرعاته، بكافة تفاصيله الدقيقة..

- إذاً الممشى رواية.

- روايتنا نحن، نحن نكتب فصولها.

- كل شيء يمضي.. كل شيء يبقى..

ولكن قدرنا أن نمضي..

نشق طُرُقا،

طُرُقاً فوق الماء..

أيها السائر،

الطريق آثار خطواتك،

ولا شيء بعد..

أيها السائر ليس ثمة طريق..

السير يصنع الطريق..

- مؤثرة، من قالها؟

- الشاعر الأسباني ماتشادو الذي يشبه السياب في رقته وتوجعه وغربته.

- ومن لا يعرف السياب!

هل تأملت فيما يعني ماتشادو؟

- مؤثر! السير يصنع الطريق.

- الطريق ليس موجوداً قبل أن نسير أو بعد أن نسير.

-أعجبني ما قاله "طُرقاً فوق الماء"

- سيرًا تشّق الطرق..

وحين تنظر للوراء..

يتراءى الطريق..

الذي لن تعود لتسيره مطلقًا..

أيها السائر

ليس ثمة طريق..

بل علامات على سطح الماء..

بل علامات على سطح الماء..

بل علامات على سطح الماء..

- أتدري الطريق لن يكون موجوداً بعد أن نسير.

أتدري، لا أحب زوال الشمس!

- لكننا في العصر ستغرب الشمس لتظهر من جديد في اليوم التالي.

- أكره زوالها في منتصف النهار حين تختفي الظلال وكأنه لا يوجد عالم سوى صمت مطبق. لا ظلال أي لا حياة.

أجهشتُ بالبكاء فمد لي منديله المفعم برائحة الليمون. حاول أن يلطف الجو الذي تعكر:

- على فكرة، يعجبني عزيزتي ما تنسجيه من قصص.

- كيف تحبها وأنت تفكك أوصالها، وتقوضّ كل ما أبنيه إلى أشلاء.

- أدلك على طريق الخلاص. النقد لغةٌ لا يفهما الكل، لغة بها الكثير من الحب لهدم المألوف، وبناء الأجمل.

- إذاً، كان النقد فخاً سقطتُ فيه بملء إرادتي.

- إنما بوتقة ينصهر فيها الفحم ليخرج الماس.

أطرق ثم رفع رأسه:

- سؤال إن سمحتي. هل دعوتِ غيري للممشى؟

- لِمَ تسأل؟ الحقيقة ثقيلة. هل ستجيب إن سألتكَ نفس السؤال؟!

- نعم و لا. نحن مثل النصوص بعضها جلي كعين الشمس وبعضها مرمز ونصوص أخرى تتقاطع مع الأولى والثانية لكن نسعى لأن نقرأ الآخرين.

أيها أنت؟

أنا نص مفتوح على مصراعيه

لذت بالصمت أتحدث مع نفسي: يا ترى أي بحور جابها وأي شواطئ رست سفينته على أعتابها، كم حقائب سافر بها، وكم أحذية سارت معه وكم قميص نزعها عن جسده، كم كتب أهملها حتى كساها الغبار؟

قطع أفكاري :

- أرجو المعذرة.. أسأل لأعرف متى.. وأين.. وكيف أسير. ومتى أصل. إن شئتِ ألا تجيبي.

- سؤال واحد فقط في كل مرة. الآخرون ليسوا مثلك سقطوا في الامتحان.

- امتحان؟

- قراءة الشعر. من يتريض معي فليحسن قراءة الشعر قلباً وقالبًا.

ضربة بعد ضربة،

بيت شعر بعد بيت..

عندما لم يعد العصفور قادرًا على التغريد..

عندما أصبح الشاعر حاجًا..

عندما لم تعد تجدي صلواتنا..

أيها السائر ليس ثمة طريق..

السير يصنع الطريق..

ضربة بعد ضربة،

بيت شعر بعد بيت…

- هذا ماتشادو؟

- هو وأنا الطريق.

نص ورسم

نجاة الشافعي

اكتوبر ٢٠٢٣م

مبروكة

حوار في الممشى

بركة

 

سرنا نتريض في الممشى ثم انبرى قائلاً:

 

- اِنظري للغيوم السمراء، يمكِن أن تمطر.  

 

- لم تخبرني "النخلة المائلة" بذلك.

 

سكت طويلاً كمن أصابه الخرس. أول مرة أخبرته عن كلامي مع النخلة المائلة حاول أن يقنعني أنها خيالات جامحة، ثم وعندما أحس بغضبي إن أنكر ذلك صار يجاريني.

 

- ماذا تحبين أن نسمي صديقتكِ النخلة؟

 

- سوف اسألها، يمكن لا ترغب أن نطلق عليها اِسماً سوى "النخلة المائلة". أتعلم أن النخل جدي.

 

- هل أنت من عائلة النخل؟! ألا يكفي إنك تتحدثي إليها!

 

- في الواقع إن جدي كانت لديه نخلتان في الحوش العتيق. واحدة تثمر ذهباً أصفراً والأخرى ياقوتاً أحمراً.

 

- جميل. لم يكن لدينا نخل لكن أمي فنانة نخل. تلون سعف النخل وتسفه فتصنع منه السلال والمهفات وسفر للطعام. وتبيعها بسعر زهيد. عندما توفت وضعنا سعفها وألوانها معها كما أوصت، اندثرت مهنتها لكن الكبار في الحي ما زالوا يذكرون أمي "بنت السعف" كما كانوا يسمونها.

 

- ونشأت أرى النخلتان الممشوقتان أمامي وألعب معهما ورفيقاتي. نعقد من خلال النخل عقوداً نزين بها أعناقنا وأيدينا. نلتقط الرطب عندما يسقط خلسة عن جدي.

 

- ما الذي حدث لهما، أما زالتا على قيد الحياة؟

 

- للأسف، توفي جدي، وأهملت النخلتان، وبقيتا كشبحين لا تثمران. ثم بيع بيت جدي لغريب استوطن الحي.

 

- هذا مؤلم.. فراق الأحبة.

 

- أسمِعتَ عن نخلة اسمها "مبروكة"؟

 

- نخلتنا؟ مبروكة؟

 

- لا "مبروكة" هي نخلة ضاربة بجذورها في تخوم أرض فلسطين. وعندما عاد يوسف العلي من المنفى في سن الستين لم يجد إلا مبروكة واقفة في استقباله، والمكان خراب فقام يحكي لها كل ذكرياته عن المكان الذي تقف فيه النخلة وأهله الذين عاشوا في ظلها، وحكى لها عن حبيبته فاطمة بنت جيرانهم التي كان يخبأ لها الرسائل في جذعها. وكان متفجعاً عندما عرف أن فاطمة قضت نحبها في مخيم عين الحلوة للاجئين. كانت النخلة مبروكة تغني معه وتبادله الحديث مثل نخلتنا.

 

- موجع أن تعود للمكان الذي تعشقه، وتراه قد ذاب. مبروكة مثل نخلتكِ تتحدث! أسمعتِ عن نخلتي جبير؟

 

- نخلتي جبير؟!

 

- جبير المليحان، كاتب مدمن للنخل، كانت لديه في قصته "النخلة"، نخلة سعفها كأنه جدائل بناته؛ لكن جاء مغتصبو الأوطان فقلعوها من جذورها، والنخلة الأخرى "أم اليتامى" في قصة "شغاف النخل" أقتلعها صاحبها بنفسه ليقوم أود أبنائه لذلك أقام لها جنازة وصنع لها قبراً ولفها بشماغه الأحمر.

 

- هذا مؤلم أن تُسرق نخلتك جهاراً نهاراً أو أن تنحر حبيبتك النخلة بيديك؛ لكن نخلتنا لا يشبهها أحد.

 

- أتغارين من النخل الآخر؟!

 

- ليس غيرة فقط، بل هوساً.  

 

- أنا أحب النخل؛ لكن لم تتحدث معي نخلة إلى الآن، وصديقتكِ المائلة التي لم تسميها بعد تتحدث إليكِ فقط.

 

- لا تقلق. أنا سأشد حبل الوصل بينكما.

 

- هل أخبرتِ النخلة المائلة عني؟

 

- كل مرة أعبر بها، أقف، أعانقها وأحكي لها عنك. النخل يحتاج أن نغديه ويغدينا بالعاطفة.

 

- هل نخلتكِ تعشق الشعر مثلك؟

 

- بل هي من علمتني الشعر.

 

أطرقتُ برأسي برهة أسدد نظراتي للنخلة المائلة وأناجيها بدون أن يسمعني: لن أبوح له بسر النخيل!

 

- مظفر النواب قال: النخلة أرض عربية.

 

- فقط عربية؟!

 

- ورمز إنساني، النخلة امرأة ووطن.

 

- النخلة وطن. من لديه نخلة لديه وطن.  أتعلم إني أشعر بأن النخل يتحدث مع بعضه؟

 

- كيف؟

 

- من خلال السعف له صوت هسهسة خاصة، لغة خاصة بها تتواصل فيما بينها.

 

- هل تعلمت هذه اللغة؟

 

- علمتني النخلة المائلة قليلاً منها وما زال أمامي الكثير لأتعلمه؛ لكن للنخل أسرار.

 

شعرت بأني شهرزاد وهو شهريار، وقد حان وقت المغادرة فسكّتُ عن الكلام المباح. 

 

رسم وكتابة: نجاة الشافعي 

المقهى أم الممشى

المقهى أم الممشى

 

زوجة أعلنت براءتها من زوج عقيم! لاكت سمعتي الألسن. صَبَّوا جَامَ غَضَبِهِم عَلَيْ، من يعرفني ومن لا يعرفني. هجرنني حتى الصديقات، وعشت وِحدَة مطبقة فتكت شيئاً فشيئاً بأعصابي؛ لذلك أدمنتُ الحبوب المهدئة وتحسين المزاج. وبعد أن مهدوا الطريق، وصبوا فيه الاسفلت صار هناك ممشى للحيّ. صار المشي رفيقي الدائم، سلوتي وعزائي. وعاد قلبي ليحيا بما أسقيه فيه من أمل، وفي الممشى قدمت دعوة مفتوحة لرجل آخر ليقطع الطريق معي بعد أن هدأت عواصف الداخل والخارج.

 

جلسنا نلتقط أنفاسنا بعد أن ذرعنا الممشى ذهاباً وإياباً خمس مرات. كانت لقاءاتنا كلّها عن طريق الصدفة المتعمدة. أشاهده من شرفتي يذرع الممشى فأسارع بالنزول. عندما نلتقي كلانا يصطنع الدهشة. أول مرة أنا دعوته للمشي ثم صار يجيء بمحض إرادته، ومع مرور الأيام أدمنّا المسير في طريق طوله كيلومتر واحد مرصع بشجيرات الورد والنخيل.

 

في أول سيرنا أصاب شفتيّ الخدر. في داخلي أنثى جريحة يصعب عليها البوح. بدأ هو الحديث بعد مسير صامت. قال متوجساً:

 

ـ اًقول لج شي..

 

- أرجوك! وقع العامية على أذني نشاز.

 

- حسناً! عزيزتي. أصارحكِ بأمر ما؟

 

- تفضل.

 

حسبته سيخبرني بما سمعه عني من أقاويل لكنه قال:  

 

- أنتِ أول امرأة تدعوني إلى الممشى بدل المقهى!

 

- أتحب المقاهي؟

 

- أرتادها مع أصدقائي.

 

- بالنسبة لي الممشى ملتقى والمقهى مفترق، والمسافة بينهما قد تطول أو تقصر.

 

- متى بدأتي المشي؟

 

- منذ زمن بعيد. الأحياء فقط يمشون!

 

- متى تمشين؟ كل يوم؟

 

-حسب مزاجي.

 

-أليس من ثوابت؟

 

- لا! يعتمد!

 

- أنت غريبة.

 

- أنا مزاجية.

 

- في أول جملة تبادرين: مزاجي سيء، أو مزاجي رائق، أو شبه متعكر، أو حزين، أو لم أنم كنت أفكر في مشاكل العالم. تصرّحين بحالتك النفسية مثل قارئ نشرة الطقس.

 

- لأنك لا تقرأ ما بين السطور.

 

شعرتُ بأنه تضايق ولاذ بالصمت. مشينا بتؤدة، وبدا ظلينا طويلين كقامات النخيل. انتشلتهُ من حالة التوجس:

 

-  أصارحكَ بأمرٍ ما؟

 

-  ماذا؟

 

- أشعر بأن الكلام معكَ يختلف عندما نمشي عما لو كنا جالسين.

 

- كيف؟!

 

- ألا تشعر عندما نمشى بأن التراب يبتهج لوقع خطانا، أن كل نخلة تنتظر أن نمر بها لتصافحنا، أن السماء تنصتُ إلى حكاياتنا، مسيرنا مثل لحن شجي تتناغم فيه حركة اللسان بالقدم بالقلب بالكون.

 

- كأنكِ تبالغين!!

 

- بلّ أبسّط. أليست الأرض دائرية؟

 

- ويعني؟

 

-إذا مشينا من نقطة نعود إليها، وإذا افترقنا سنلتقي. أليس العالم صغير؟  

 

- نكتشف أن العالم صغير جداً حين نعبر جزءً منه.

 

- والعكس صحيح.

 

- لا تكوني متشائمة، الفراق لن يحصل! أنت محور دائرتي.

 

- هل تعني كل ما تقول، وتقول كل ما تعني؟

 

- بالتأكيد! وأنتِ؟

 

- أنا.. أنا أقول ما لا أعني، وأعني ما لا أقول.

 

- هذا طلسم.

 

- أليست الحياة طلاسم؟!

 

- غموض أحياناً، وليست طلاسم. أنا واضحٌ كالشمس، أما أنتِ فغامضة كوجه القمر الخفي.

 

- بل يقال إن الرجال من المريخ والنساء من الزهرة، وأننا نفصح عن مشاعرنا بينما أنتم تخفونها. أتدري أيها المريخي نسيتُ أن أسألك ما هو لونك المفضل، أو متى عيد ميلادك أو كتابك المفضل، ووو..؟

 

- أيتها الزهرة. أنتِ لوني المفضل، ولادتي عندما عرفتكِ، وأنتِ كتابي، وأنتِ صديقتي و..

 

- إذاً أنتَ من أنتظره طويلاً، فليس لي رفاق.

 

غالبتُ دمعةً مدويةً كادت تسقط فيسمعها. ارتجفتْ يدي:

 

- لا أدري لم أشعر بالبرد رغم أن في داخلي كتلة من اللهب.

 

قدم لي معطفه فغصت في رائحته.. مخدّرة مثل زهر الليمون.

 

في المذياع تصاعد صوت ناعم للمذيعة:

 

- الخطوط مفتوحة! ستُغلق بعد قليل.

 

- أسمعتِ ما تقول؟

 

- تقول الخطوط مفتوحة.

 

- أي خطوط؟ الحمراء؟

 

- الهاتف طبعاً.