مبروكة

حوار في الممشى

بركة

 

سرنا نتريض في الممشى ثم انبرى قائلاً:

 

- اِنظري للغيوم السمراء، يمكِن أن تمطر.  

 

- لم تخبرني "النخلة المائلة" بذلك.

 

سكت طويلاً كمن أصابه الخرس. أول مرة أخبرته عن كلامي مع النخلة المائلة حاول أن يقنعني أنها خيالات جامحة، ثم وعندما أحس بغضبي إن أنكر ذلك صار يجاريني.

 

- ماذا تحبين أن نسمي صديقتكِ النخلة؟

 

- سوف اسألها، يمكن لا ترغب أن نطلق عليها اِسماً سوى "النخلة المائلة". أتعلم أن النخل جدي.

 

- هل أنت من عائلة النخل؟! ألا يكفي إنك تتحدثي إليها!

 

- في الواقع إن جدي كانت لديه نخلتان في الحوش العتيق. واحدة تثمر ذهباً أصفراً والأخرى ياقوتاً أحمراً.

 

- جميل. لم يكن لدينا نخل لكن أمي فنانة نخل. تلون سعف النخل وتسفه فتصنع منه السلال والمهفات وسفر للطعام. وتبيعها بسعر زهيد. عندما توفت وضعنا سعفها وألوانها معها كما أوصت، اندثرت مهنتها لكن الكبار في الحي ما زالوا يذكرون أمي "بنت السعف" كما كانوا يسمونها.

 

- ونشأت أرى النخلتان الممشوقتان أمامي وألعب معهما ورفيقاتي. نعقد من خلال النخل عقوداً نزين بها أعناقنا وأيدينا. نلتقط الرطب عندما يسقط خلسة عن جدي.

 

- ما الذي حدث لهما، أما زالتا على قيد الحياة؟

 

- للأسف، توفي جدي، وأهملت النخلتان، وبقيتا كشبحين لا تثمران. ثم بيع بيت جدي لغريب استوطن الحي.

 

- هذا مؤلم.. فراق الأحبة.

 

- أسمِعتَ عن نخلة اسمها "مبروكة"؟

 

- نخلتنا؟ مبروكة؟

 

- لا "مبروكة" هي نخلة ضاربة بجذورها في تخوم أرض فلسطين. وعندما عاد يوسف العلي من المنفى في سن الستين لم يجد إلا مبروكة واقفة في استقباله، والمكان خراب فقام يحكي لها كل ذكرياته عن المكان الذي تقف فيه النخلة وأهله الذين عاشوا في ظلها، وحكى لها عن حبيبته فاطمة بنت جيرانهم التي كان يخبأ لها الرسائل في جذعها. وكان متفجعاً عندما عرف أن فاطمة قضت نحبها في مخيم عين الحلوة للاجئين. كانت النخلة مبروكة تغني معه وتبادله الحديث مثل نخلتنا.

 

- موجع أن تعود للمكان الذي تعشقه، وتراه قد ذاب. مبروكة مثل نخلتكِ تتحدث! أسمعتِ عن نخلتي جبير؟

 

- نخلتي جبير؟!

 

- جبير المليحان، كاتب مدمن للنخل، كانت لديه في قصته "النخلة"، نخلة سعفها كأنه جدائل بناته؛ لكن جاء مغتصبو الأوطان فقلعوها من جذورها، والنخلة الأخرى "أم اليتامى" في قصة "شغاف النخل" أقتلعها صاحبها بنفسه ليقوم أود أبنائه لذلك أقام لها جنازة وصنع لها قبراً ولفها بشماغه الأحمر.

 

- هذا مؤلم أن تُسرق نخلتك جهاراً نهاراً أو أن تنحر حبيبتك النخلة بيديك؛ لكن نخلتنا لا يشبهها أحد.

 

- أتغارين من النخل الآخر؟!

 

- ليس غيرة فقط، بل هوساً.  

 

- أنا أحب النخل؛ لكن لم تتحدث معي نخلة إلى الآن، وصديقتكِ المائلة التي لم تسميها بعد تتحدث إليكِ فقط.

 

- لا تقلق. أنا سأشد حبل الوصل بينكما.

 

- هل أخبرتِ النخلة المائلة عني؟

 

- كل مرة أعبر بها، أقف، أعانقها وأحكي لها عنك. النخل يحتاج أن نغديه ويغدينا بالعاطفة.

 

- هل نخلتكِ تعشق الشعر مثلك؟

 

- بل هي من علمتني الشعر.

 

أطرقتُ برأسي برهة أسدد نظراتي للنخلة المائلة وأناجيها بدون أن يسمعني: لن أبوح له بسر النخيل!

 

- مظفر النواب قال: النخلة أرض عربية.

 

- فقط عربية؟!

 

- ورمز إنساني، النخلة امرأة ووطن.

 

- النخلة وطن. من لديه نخلة لديه وطن.  أتعلم إني أشعر بأن النخل يتحدث مع بعضه؟

 

- كيف؟

 

- من خلال السعف له صوت هسهسة خاصة، لغة خاصة بها تتواصل فيما بينها.

 

- هل تعلمت هذه اللغة؟

 

- علمتني النخلة المائلة قليلاً منها وما زال أمامي الكثير لأتعلمه؛ لكن للنخل أسرار.

 

شعرت بأني شهرزاد وهو شهريار، وقد حان وقت المغادرة فسكّتُ عن الكلام المباح. 

 

رسم وكتابة: نجاة الشافعي