هدف لن ينسى


هَدَفٌ لن يُنسَى

في ذروة الحدث الكروي العالمي نسى مضاضة فقره، وسغب فلذات كبده وفواتير البقّالة والماء والكهرباء والأجار التي كسرت ظهره، وانمسحت من شريط ذاكرته صورة رفيقة عمره التي قضت بالسرطان، وهو يراقب الكرة باستمتاع تتقاذفها أقدام الحُوَاة من منتخب البرازيل، يهتف لهم بصوت حماسي ينبثق من صميم روحه ليفوزوا على خصمهم اللدود، الأرجنتين.

كان يشاهد شاشة التلفاز بعين واحدة التصقت بخرم في زجاج نافذة المقهى الخلفية، يسترق النظر لأنه لا يستطيع أن يدفع ثمن المشروبات ليدخل حرم المقهى الباذخ الذي ملئه مشجعي الكرة عن بكرة أبيه، ورغم ذلك صارت تلك الفُرْجَة الضيقة مركزاً للكرة الأرضية تضيئها شمس فريقه الأصفر، ويطوف هو حولها.

لم تَطُل متعته، فلقد تصدّع ظهره ألماً، وعندما استدار قليلاً رأى الآخر رافعاً قدمه محاولاً أن يركله مرة ثانية ليحّل محله لمشاهدة المبارة فقاومه مقاومة عنيفة ودفعه وأطاح به؛ لا يمكن لأحد أن يسرق مكانه أو يحتلّ مركزه أو يتفرج على فريقه غصباً عنه. حاول الآخر بكلّ ما أوتي من قوة أن يزحزحه، ولم يستطع لأنه زرع قدميه في الأرض كالأوتاد، وصمد للهجوم كجبل راسخ.

غضب خصمه من عدم تمكنه من دفعه مهما حاول فأطبق فكيه على كفه اليمنى التي تتشبث بمقبض النافذة. عضه بشراسة كلب مسعور فسال دمه ملطّخاً قميصه الأصفر الباهت ذي الرقم ١٠ الذي أدمن لبسه منذ شبابه تشجيعاً لفريق البرازيل الذي يعرف أسماء لاعبيه وأعمارهم وأطوالهم وأوزانهم، وكل دقيقة في حياتهم، وأرقام القمصان التي يرتدونها، وتاريخ الفريق الأسطوري، والبطولات التي أحرزها وكل شاردة وواردة عن الفريق.

اجتاحه تيار جارف من الألم فترنح رغم أنفه، وسقط على الأرض، وحينها علا صوت المعلّق خالد الحربان جهورياً صارخاً بحماسة منقطعة النظير: ضربة جزاء، هههه، بلنتي! بلنتي! الامبراطور بيليه سيقوم بتسديد الرمية القاتلة!!

انتهز عدوه فرصة سقوطه فسيطر على مركز العالم ينظر للتلفاز بعين واحدة، وهو ما زال مُمَداً يتأوه من شدة الوجع، والدماء تنزف من أصابعه وتغرِق قميصه. انتابته نوبة غضب عارمة، فأولاً، هو من جاء قبله لينظر من فُسحَة الأمل، وثانياً، فوز فريق البرازيل هو آخر ما تبقى من أحلامه التي نَفِقَت واحداً واحداً. أمسك بحجر ملقى بالقرب منه. لم يتردد. قذفه بكل ما أوتي من قوة. شجَّ رأس الآخر، وشخِبت الدماء. ترنح وسقط بينما المعلق يصرخ مهتاجاً: جول.. جول للبرازيل! تسديدة في المرمى! الأسطورة بيليه يحقق النصر للبرازيل! أبطال أيها البرازيليون! أبطال!

صرخ مع المشجعين في المقهى مبتهجاً ناسياً الألم، ومتناسياً الرجل الذي طرحه أرضاً غارقاً في بركة من الدماء: "جول.. جول فزنا، كسبنا البطولة! أبطال!" ثم أمسك بكأس البطولة الذهبي يحتضنه، ويقبله بفرح جامح، رفعه عالياً لتراه الجماهير، ودموعه كالمطر تتصبب على خديه وتبلل شاربه ولحيته الكثة، وياقة قميصه المحمر، والجماهير تحمله فوق الأعناق، ويطوفون به حول الملعب.

انتهت المُبارة وغادر اللاعبين الملعب وبعض من في المقهى، وهو ما يزال واقفاً أمام النافذة رافعاً كلتا يديه فوق رأسه يتأرجحان يمنةً ويسرةً إلى أن أفاق خصمه، ودبتّ فيه الحياة. نهض مترنحاً، ورفسه للأمام بكل ما أوتي من قوة فتحطم زجاج النافذة في وجهه واندفع بجسده إلى داخل المقهى. اِلتفّ حوله من تبقى من المشجعين يصوبون سهام نظراتهم إليه بين أشلاء الزجاج المتناثر، وهو ما زال متقرفصاً محتضناً الكأس باستماتة مدافعاً عنه حتى آخر رمق لئلا يسلبه أحد من فلذة فؤاده.

 

 

 

 

 

 

ّ