خصلةٌ من شَعْرِها
خصلةٌ من شَعْرِها
في تأبين الكاتبة الفلسطينية الشهيدة هبة أبو ندى (24 يونيو 1991 - 20 أكتوبر 2023) ولدت في مكة واستشهدت على ثرى غزة العزة.
في ليلة من ليالي تشرين الدافئة عندما نامت لم تنم أي خصلة من خصلات شعرها. قامتْ في منتصف الليل، وتسللتْ من مخدعها على أطراف أصابعها. عبرت بمكتبتها وسمعت أنين "كتابٍ يتأوهُ على رفِّ النسيان". وعلى منضدتها روايتها الأخيرة: "الأكسجين ليس للموتى" دونتها حين "اكتشفت الحبر ومدت لهُ أسطرًا طويلة من البوح"، الشغف الذي ينبع من صميم الروح سكبته في قلب روايتها.
خرجتْ إلى غرفة المعيشة حيث نسوا التلفاز مشتعلاً على قناة الأخبار، وأكواب القهوة باردة يحتسيها الصمت. مشتْ بحذر لئلا توقظ أهل الدار والضيوف الذين حلوا بهم في وقت متأخر من الليل. تعثرت بالأريكة وكادت تسقط. سارت بعد أن أوقدت شموعاً وضعتها في مدخل البيت بجوار المفتاح. هبطت من عتبة الباب. تنفست عميقاً. اقتحم الأكسجين رئتيها، ورقص شعرها على وقع أنغام الهواء العليل.
شاهدها سرب من طيور الكناري فالتقط كل طير عدة خصلات من شعرها ليبني له عشاً يأويه وعائلته في حضن شجرة البرتقال. حين انتهوا، التحموا كل واحد يضع يده على خصر الآخر يرقصون الدبكة، يصعدون بسيقانهم ثم يهبطون بها، يحركونها يميناً وشمالاً في تناغم وانسجام، ورقص معهم القمر متأبطاً خصر نجمة حمراء ذات وشاح أخضر بلون عيني الجميلة النائمة.
أما دودات القز التي كان تبحث عما يكسِيها فأخذت خصلات من شعرها لتنسج شرانقها المضيئة. نامت برهة ثم نهضت الفراشات لتعانق الوردات المُزهِرات في حقول الرمان، وانساب الحرير من خصلاتها حتى النبعة البعيدة في أقصى التلال.
وصل البهلوان في الوقت المناسب فأخذ لفتين من الشعر. كورهما وقذفهما في الهواء ثم تلقفهما وقذفهما ثانية. تحلّق حوله أطفال يضحكون، يرفرفون بأجنحتهم البيضاء بين الغيوم.
كانت سجينة القلعة تنتظر حبيبيها آدم منذ موسم الخصب حتى الربيع. صنعت من الخصلات التي التفت حول أصابعها حبلاً رمته للأسفل. صعد حبيبها إليها حتى الأعلى. صبّ في أذنها كل أشواق الانتظار، تعانقا طويلاً، ومشِيا فوق الحبل. عبرا ضفة النهر إلى حيث حقول شاسعة من البياض.
خصلات أخرى من شعرها طيرها الهواء فالتحمت بأسلاك الكهرباء المقطوعة لتغذي الحي بأكمله. أضاءت أنوار الشوارع كالبرق. غدا الليل نهاراً، خرج الناس من منازلهم ليحتفلوا بعرس السجينة المُحَررة وآدم، واكتظت بهم الطرقات، "يعدُّون موائدَ أرواحهم على حوافِّ المدن، ويغنون كأنهم اكتشفوا حناجرهم لأول مرة" . هدر الرعد، وانهمرت خصلات من شعرها، هدايا للجموع، ضفائر طويلة "أطول من إلياذة هوميروس" وضفائر تنوء بالأوجاع "أثقل من صخرةِ سيزيف".
أخيراً وصل أخوها يبحث عن خصلة من أهدابها في وسط الجموع. حطّت في يده عدة خصلات كانت تنتظره. شم رائحة أنفاسها كالندى. تذكر عينيها اللتين بلون الفستق. كانت ابتسامة "عزيز" آخر ما رأته قبل أن تنام، وفي الحلم كانت "تحبو مع عزيز نحوَ النور في آخرِ نفقِ أحلامه".
الخصلات التي تبقتْ من شعرها أقفلتْ عائدة إلى مهجعها، جلستْ في مقعدها، همتّ بقراءة الرواية، وأصغتْ لكاتبة حيّة لا تموت:
لكن! قبلَ أن تقرأ "الأكسجين ليسَ للموتى" خذ جرعتك من الألوان؛ لأنَّ الأمور رمادية جدًّا في الداخل، فاخلع قلبك وادخل الأحداث، فكل الخيال القادم حقيقيٌ جدًّا!
كتبته: نجاة الشافعي في ٢٠ أكتوبر ٢٠٢٣م
العبارات التي بين علامات التنصيص هل للشهيدة هبة أبو الندى التي كتبتها مقدمة لروايتها "الأكسجين ليس للموتى" بعضها كما هي وبعضها بتغيير طفيف.
هبة كمال صالح أبو ندى (24 يونيو 1991 - 20 أكتوبر 2023)، كاتبة وشاعرة وقاصَّة فلسطينية من قرية بيت جرجا المُهجَّرة وتعيش في قطاع غزة، مواليد مدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية. نذرتْ كتابتَها لتكون ناطقة باسم القضية الفلسطينية وآلامها.
استشهدت هبة في يوم الجمعة الموافق 20 أكتوبر 2023 خلال أحداث عملية طوفان الأقصى. نعتها وزارة الثقافة الفلسطينية في بيانٍ جاء فيه: «الكاتبة والشاعرة هبة كمال أبو ندى تقضي نحبها شهيدة نتيجة العدوان المستمر على شعبنا في غزة».
مقدمة روايتها التي فازت بجائزة الإبداع من دائرة الثقافة في الشارقة في ٢٠١٧م:
اخترعتُ آدم، كانَ فكرة تلوِّحُ لي من مسافات شاسعة من البياض قبلَ أن أكتشفَ الحبر وأمدهُ لهُ أسطرًا طويلة من البوح، وعندما كتبتُ آدم أصبحتُه حتَّى لم أستطع أن أصبحَ سواه. بزغَ آدم في أدَمةِ هذهِ الرواية من ذنبٍ قديم منسي وراءَ تلافيفِ الأبعاد، ومن غلافِ كتابٍ يتأوهُ على رفِّ النسيان، ومن خيالِ حديقةٍ مسحت ذاكرتُها فظنَّت أنها وردة بلاستكية على طرفِ الجاكيت، ومن خطِّ دمٍ أسود أطول من إلياذة هوميروس وأثقل من صخرةِ سيزيف! هنا ستجدُ نفسكَ تبحثُ مع آدم عن قاتلٍ هلامي، وتعيشُ مع والدتهِ وهيَ تفكُّ ألغازَ الحب المرسومة على البذلة العسكرية، وتحبو مع عزيز نحوَ النور في آخرِ نفقِ أحلامه، وستتناولُ جوعكَ مع أولئكَ الذينَ يعدُّون موائدَ أرواحهم على حوافِّ المدن، وستهتفُ للجموع، ستغني معها كأنك اكتشفتَ فمكَ قبلَ ثانية، واحذر لأنك ستحب وتشعرُ بالأمل، وربما لا تسعفكَ النقطة الأخيرة في الرواية، وربما... يسعفكَ ما بعد ربما! لقد جعلتُ علامات الترقيم وهمية ومؤقتة هنا، لأنَّني أعطيكَ الحق أيها القارئ لكي تضعَ علاماتك الخاصة، أسئلتك، وفواصلك، علامات تعجبك، وجملك الاعتراضية، ونقطة الختام. لكن! قبلَ أن تقرأ "الأكسجين ليسَ للموتى" خذ جرعتك من الألوان؛ لأنَّ الأمور رمادية جدًّا في الداخل، فاخلع قلبك وادخل الأحداث، فكل الخيال القادم حقيقيٌ جدًّا!
هبة أبو ندى