عَـرُوسُ الـقَمَر

 

عَـرُوسُ الـقَمَر

 عَـرُوسُ الـقَمَر

 

حلّ اليوم الموعود. قلبي يشدو منذ فتحتُ عينيّ. اِرتديتُ فستان زفافي.. نفس الفستان الذي لبسته أمي في عرسها. أردتُ شراء فستاناً حديث الطراز فعارضت جدتي بصرامة: حبيبتي!! فستان أمك ليس قماشاً بالياً وخيوطاً ذائبة، بل حكاية طويلة.. لكّل غرزة حكاية.. أتعرفين أن جدك ابتاع قماشه النفيس من القدس؟ أتعرفين أني قضيت أياماً شاقة أفصّل الفستان، أقصه ثم أطرّزه بدقة كما علمتني أمي غرزة غرزة؟

 

رَنَتْ ببصرها إلى ماكينة الخياطة السوداء ذات العلامة الذهبية. تهدجّ صوتها: أتعرفين أني بدأت خياطة فستان أمك حين بدأ أبوك في قطف الزيتون في شهر تشرين الأول، وانتهيتُ عند نهاية الموسم. لا زلتُ أتذّكر أنه كان موسماً خصباً أغدقت لنا فيه الأرض كنوزها.

 

نظرنا معاً لصورة والدي ذات الشريط الأسود فاعتصرنا القهر والألم. قبلّتُ جبينها، أجبتها محاولة التخفيف عنها: أعرف تيتا! سأرتديه طبعاً!! كنتُ أمزح معك.

 

كان الفستان ضيقاً عليّ لأني أسمنُ من أمي فتصارعتُ معه حتى تمكنت من إحكام أزراره. مَشَطّتْ أمي شعري ثم رفعته عالياً. حملتُ باقة الورد الجوري الأحمر الذي قطفته أختي من البستان. صفته بكل عناية، وربطته بشريط من الساتان الأخضر. قالت ضاحكة: كما في الأفلام الأجنبية أرمي الباقة صوبي ليحين دوري بعدك.

 

انتعلتُ حذائي الأبيض ذي الكعب العالي، وتأبطت حقيبة بيضاء لتكتمل أناقتي. نظرت إلى المرآة لأصلح هندامي فانبهرتُ من شِدّة بياضي.

 

اشرأبت أعناق السيدات والسادة في الحي حين رأوني في حلّة عرسي. تهامسوا، وسمعتهم: ليس الوقت وقت عرس وزفاف! استوقفتني جارتنا: الله! ما أجملكِ مثل القمر؛ لكن الوقت مازال مبكراً. أجبتها بلطف: أعرف يا خالتي! لكن الطريق طويل.

 

أمتدّ ذيل فستاني خلفي، كلما مشيتُ سَحَلَ كل ما في طريقه، جَرَفَ أحزان أشجار الخريف النازفة، نحيب الأقمار الآفلة، أنين النجوم الساقطة، وجرف وابل الأوجاع كلها انمحقت، وكساها البياض.

 

هبتّ عاصفة مباغتة، وكاد ذيلي أن يطير. جاءت طفلة حملت الذيل بكفيها الرقيقتين، ومشت خلفي: أنا وصيفتكِ!

 

سألتها: حبيبتي، ألن تتأخري عن المدرسة. لا! اليوم جمعة، المدارس مقفلة. ما اسمكِ؟! ما الذي يناسبني؟ ربما فرحة.. فرح؟ إذاً ناديني فرح! أمي أيضاً كانت تحبّ هذا الاسم.

 

أرهقنا المشي فجلسنا لنستريح في ظل نخلة. متى سنصل؟ سألتني فرح. أجبتها: أتعبتِ؟ أتحبين الحلوى؟ أخرجتُ بعض السكاكر من حقيبتي. أجلستُها في حضني. سرّحت شعرها الطويل بينما كانت تمضغ الحلوى. جدلّته ضفيرة طويلة رقصت عند خصرها النحيل، كانت جميلة مثل القمر.

 

أمسكتْ بيدي تتفحصها: الله! ما أجمل نقوش الحناء! عندي حناء عجنتها اليوم. مُدّي يدكِ أُحنِّيكِ. أنتِ وصيفتي! رسمتُ لها بيتاً، وبستاناً، وشجرة برتقال، وعصافير تغرد، وفراشات تحلق. الله! لم أعرف أنّكِ رسامة!

 

صعدنا التلة ثم هبطنا إلى الوادي. جلسنا على صخرة لنلتقط أنفاسنا. أخرجتُ من حقيبتي ماء لنشرب فقد أنهكنا العطش ثم نزعتُ حذائي الذي صهر أصابع قدميّ، وسرت حافية. سألتني فرح بفضول: لماذا لم يرافقك العريس؟ أجبتها: ينتظرنا في الحفل! 

 

مرت بنا مسافرة هَرِمَة تحمل حقيبة كبيرة. قالت: رأيت بياضاً فتبعتكما. الله! الله! أنتِ العروس؟ مثل القمر! نعم؛ لكني لم أراكِ من قبل! غمزت بطرفها لي: أنا من طرف العريس. وأطلقت سيلاً من الزغاريد من حنجرتها الذهبية فأهتز الوادي طرباً، ورقصت كل ذرة تراب.

 

عَدَونَا لكيلا نتأخر. حلقّت فوق رؤوسنا أسرابٌ من النوارس البيضاء، ظَلَلَتْنَا بأجنحتها الطويلة. لم أكن أسير، بل شعرت بخفة، كأنني أطير. فرح!! أتسمعين دق الدفوف! ضحكت فرح ضحكة مدوية فاقتربت عرائس البحر من الشاطئ. الله! الله! بزغ القمر! أخرجتُ ألواني لأرسم لوحتي الأخيرة: عروس القمر.

 

إلى الشهيدة هبة زغوت، رسامة فلسطينية. ارتقت مع ابنها في يوم الجمعة ١٣ أكتوبر ٢٠٢٣م.

إلى الشهيدة هبة زغوت، رسامة فلسطينية. ارتقت مع ابنها

في يوم الجمعة ١٣ أكتوبر ٢٠٢٣م.

صورة ولوحات الشهيدة هبة زغوت

العمل بالأسود والأبيض: نجاة الشافعي

Bride of the Moon by Najat Alshafie using charcoal and pencil on canvas.