عَـرُوسُ الـقَمَر

 

عَـرُوسُ الـقَمَر

 عَـرُوسُ الـقَمَر

 

حلّ اليوم الموعود. قلبي يشدو منذ فتحتُ عينيّ. اِرتديتُ فستان زفافي.. نفس الفستان الذي لبسته أمي في عرسها. أردتُ شراء فستاناً حديث الطراز فعارضت جدتي بصرامة: حبيبتي!! فستان أمك ليس قماشاً بالياً وخيوطاً ذائبة، بل حكاية طويلة.. لكّل غرزة حكاية.. أتعرفين أن جدك ابتاع قماشه النفيس من القدس؟ أتعرفين أني قضيت أياماً شاقة أفصّل الفستان، أقصه ثم أطرّزه بدقة كما علمتني أمي غرزة غرزة؟

 

رَنَتْ ببصرها إلى ماكينة الخياطة السوداء ذات العلامة الذهبية. تهدجّ صوتها: أتعرفين أني بدأت خياطة فستان أمك حين بدأ أبوك في قطف الزيتون في شهر تشرين الأول، وانتهيتُ عند نهاية الموسم. لا زلتُ أتذّكر أنه كان موسماً خصباً أغدقت لنا فيه الأرض كنوزها.

 

نظرنا معاً لصورة والدي ذات الشريط الأسود فاعتصرنا القهر والألم. قبلّتُ جبينها، أجبتها محاولة التخفيف عنها: أعرف تيتا! سأرتديه طبعاً!! كنتُ أمزح معك.

 

كان الفستان ضيقاً عليّ لأني أسمنُ من أمي فتصارعتُ معه حتى تمكنت من إحكام أزراره. مَشَطّتْ أمي شعري ثم رفعته عالياً. حملتُ باقة الورد الجوري الأحمر الذي قطفته أختي من البستان. صفته بكل عناية، وربطته بشريط من الساتان الأخضر. قالت ضاحكة: كما في الأفلام الأجنبية أرمي الباقة صوبي ليحين دوري بعدك.

 

انتعلتُ حذائي الأبيض ذي الكعب العالي، وتأبطت حقيبة بيضاء لتكتمل أناقتي. نظرت إلى المرآة لأصلح هندامي فانبهرتُ من شِدّة بياضي.

 

اشرأبت أعناق السيدات والسادة في الحي حين رأوني في حلّة عرسي. تهامسوا، وسمعتهم: ليس الوقت وقت عرس وزفاف! استوقفتني جارتنا: الله! ما أجملكِ مثل القمر؛ لكن الوقت مازال مبكراً. أجبتها بلطف: أعرف يا خالتي! لكن الطريق طويل.

 

أمتدّ ذيل فستاني خلفي، كلما مشيتُ سَحَلَ كل ما في طريقه، جَرَفَ أحزان أشجار الخريف النازفة، نحيب الأقمار الآفلة، أنين النجوم الساقطة، وجرف وابل الأوجاع كلها انمحقت، وكساها البياض.

 

هبتّ عاصفة مباغتة، وكاد ذيلي أن يطير. جاءت طفلة حملت الذيل بكفيها الرقيقتين، ومشت خلفي: أنا وصيفتكِ!

 

سألتها: حبيبتي، ألن تتأخري عن المدرسة. لا! اليوم جمعة، المدارس مقفلة. ما اسمكِ؟! ما الذي يناسبني؟ ربما فرحة.. فرح؟ إذاً ناديني فرح! أمي أيضاً كانت تحبّ هذا الاسم.

 

أرهقنا المشي فجلسنا لنستريح في ظل نخلة. متى سنصل؟ سألتني فرح. أجبتها: أتعبتِ؟ أتحبين الحلوى؟ أخرجتُ بعض السكاكر من حقيبتي. أجلستُها في حضني. سرّحت شعرها الطويل بينما كانت تمضغ الحلوى. جدلّته ضفيرة طويلة رقصت عند خصرها النحيل، كانت جميلة مثل القمر.

 

أمسكتْ بيدي تتفحصها: الله! ما أجمل نقوش الحناء! عندي حناء عجنتها اليوم. مُدّي يدكِ أُحنِّيكِ. أنتِ وصيفتي! رسمتُ لها بيتاً، وبستاناً، وشجرة برتقال، وعصافير تغرد، وفراشات تحلق. الله! لم أعرف أنّكِ رسامة!

 

صعدنا التلة ثم هبطنا إلى الوادي. جلسنا على صخرة لنلتقط أنفاسنا. أخرجتُ من حقيبتي ماء لنشرب فقد أنهكنا العطش ثم نزعتُ حذائي الذي صهر أصابع قدميّ، وسرت حافية. سألتني فرح بفضول: لماذا لم يرافقك العريس؟ أجبتها: ينتظرنا في الحفل! 

 

مرت بنا مسافرة هَرِمَة تحمل حقيبة كبيرة. قالت: رأيت بياضاً فتبعتكما. الله! الله! أنتِ العروس؟ مثل القمر! نعم؛ لكني لم أراكِ من قبل! غمزت بطرفها لي: أنا من طرف العريس. وأطلقت سيلاً من الزغاريد من حنجرتها الذهبية فأهتز الوادي طرباً، ورقصت كل ذرة تراب.

 

عَدَونَا لكيلا نتأخر. حلقّت فوق رؤوسنا أسرابٌ من النوارس البيضاء، ظَلَلَتْنَا بأجنحتها الطويلة. لم أكن أسير، بل شعرت بخفة، كأنني أطير. فرح!! أتسمعين دق الدفوف! ضحكت فرح ضحكة مدوية فاقتربت عرائس البحر من الشاطئ. الله! الله! بزغ القمر! أخرجتُ ألواني لأرسم لوحتي الأخيرة: عروس القمر.

 

إلى الشهيدة هبة زغوت، رسامة فلسطينية. ارتقت مع ابنها في يوم الجمعة ١٣ أكتوبر ٢٠٢٣م.

إلى الشهيدة هبة زغوت، رسامة فلسطينية. ارتقت مع ابنها

في يوم الجمعة ١٣ أكتوبر ٢٠٢٣م.

صورة ولوحات الشهيدة هبة زغوت

العمل بالأسود والأبيض: نجاة الشافعي

Bride of the Moon by Najat Alshafie using charcoal and pencil on canvas.

أظافر دانتي

تعثروا بالأشلاء التائهة.. وهم يفّرون من جحيم دانتي.. أوقدوه لهم في وسط المستشفى.. يفّرون من جحيم إلى جحيم آخر ينتظرهم خارجه..

شاهدتهم ليلاً في القنوات التلفزيونية، بكت واِكتأبت. ثم ذهبت في اليوم التالي إلى صالون التجميل، قلّمت أظافرها أخصائية المينيكير، شذّبتها، طلتها ثم مَسَدَّت قدميها بزيت البنفسج.

انبرت قائلة وهي مستلقية على الأريكة، تهفّ الطلاء ليجف: طَخّت الريحه الحلوه في راسي.

كان البث حياً (للفاشينيستا) على (السنابشات) للترويج للصالون الجديد.

قصة أحداثها واقعية

حُرِّرَّت في ١٨ اكتوبر ٢٠٢٣م، يوم ما بعد مجزرة المستشفى المعمداني في غزة

كتابة ورسم
نجاة الشافعي

الناجي الوحيد

النَاجِي الوحيد

في تمام السادسة صباحاً سارعتْ ذات القدمين الدافئتين لارتداء النِعَال العتيق الذي ورثته من والدتها. ذهبتْ إلى الخبّاز، ووقفتْ كالعادة تنتظر دورها في طابور تتدحرج فيه أحاديثٌ ألِفوها عن القصف الشرس والغارات المتواصلة والحصار الغادر، وعن انقطاع الكهرباء وندرة الماء، والغذاء، والدواء، وعرجّت الأحاديث المترعة بالشجن إلى تعداد أسماء العائلات التي حُصِدَت من السجل المدني في غضون ساعات. عادتْ للمنزل مثقلة بالهموم، فقط ثلاث أرغفة من الخبز سيقتسمونها حتى صباح اليوم التالي، ونزعتْ النعال لتعّد الفطور في المطبخ.

استيقظ في السادسة والنصف صباحاً ذا القدمين الباردتين، ولبس النعال مهرولاً نحو الباب. ذهبتْ لتوقظه فكان فراشه بارداً مثل قدميه. حسبته في الحمام فعادت للمطبخ. لم يجد سجائراً في السوق فعاد لاهثاً يحمل ربع بطيخة مفلوقة، ذات غلاف لامع أخضر، وجوف شهي أحمر، وترك النعال المـُـنهك عند الباب.

لبستاه قدمان سريعتي الإيقاع، وغاصتا فيه. كانتا قلقتين، فقد أوشكت باقة الانترنت على النفاد. فتحتا الباب وخرجتا لتبحثا عن طوقاً للتواصل مع من تبقى من أصدقائه؛ لكنهما عادتا حانقتان فلم تجدا ما تبحثان عنه؛ فلقد نفدت باقات الاتصال بالعالم الخارجي. خَلَعَ فردتي النعال المكتئب، وألقى به عند باب الحمام.

أمسكت بهما يد بريئة. تخيلتهما طائرتين نفاثتين تحلقان في السماء. دمدمت ضاحكة وهي تلعب فتحلقت حولها الأقدام الأخرى مبتهجة. فجأة انقلب عاليها سافلها، وأمطِروا بحجارة من سجيل. سقط النعال اليتيم تنزِف منه أحلامٌ بيضاء: أرغفة خبز وعلبة سجائر وباقة انترنت ولعبة طفل.

نجاة الشافعي

The artwork is mixed media on paper using water colors, wax and matches.

نجاة الشافعي

٢٥ أكتوبر ٢٠٢٣م

السير يصنع الطريق

حور الممشى

السير يصنع الطريق

اليوم كان مختلفاً جداً. أثناء سيرنا ناجتنا الغيمات الكالحة السواد فأنصتنا لها. أخبرتنا عن الشجن الأزلي في العالم، الصغار الذين تسرق أحلامهم فيكبرون أيتام الأمهات والأمل، الشيوخ الذين يهرمون بدون أبناء، المنفيون عن الأوطان، المحرمون من الفرح، البيوت التي بدون سقوف، الأسوار العالية، وتفجرت الغيمات أسىً فسالت مدامعها. واصلنا سيرنا في الممشى، تحت المطر. عندما وصلنا إلى ٥٠٠ متر خاطبته بصوت ماطر:

- أشعر إني غريقة.

- المطر ذكركِ بالغرق؟ ليس غزيراً!

- منذ قرأت تغريبة القافر، شعرت بأني الغريقة نفسها، أضع رأسي في الماء لينطفئ الوجع ولا ينطفئ . حاولت بكافة الوسائل ولم تنجع، أصابني اليأس فرأسي دائماً ثقيلة كالجبل.

- لم أقرأها الرواية بعد. دورها قادم، لكن الوجع جزء من الحياة ربما يدفعنا لأن نكون حالمين نأمل في يوم جميل مثل هذا اليوم الماطر.

- بالمناسبة، هل أنتَ من أنصار الرواية أو القصة؟

- أحب القصص قصيرة أم طويلة. القصة القصيرة زاوية في شارع طويل، والرواية هي شارع طويل ببشره وبناياته وتفرعاته، بكافة تفاصيله الدقيقة..

- إذاً الممشى رواية.

- روايتنا نحن، نحن نكتب فصولها.

- كل شيء يمضي.. كل شيء يبقى..

ولكن قدرنا أن نمضي..

نشق طُرُقا،

طُرُقاً فوق الماء..

أيها السائر،

الطريق آثار خطواتك،

ولا شيء بعد..

أيها السائر ليس ثمة طريق..

السير يصنع الطريق..

- مؤثرة، من قالها؟

- الشاعر الأسباني ماتشادو الذي يشبه السياب في رقته وتوجعه وغربته.

- ومن لا يعرف السياب!

هل تأملت فيما يعني ماتشادو؟

- مؤثر! السير يصنع الطريق.

- الطريق ليس موجوداً قبل أن نسير أو بعد أن نسير.

-أعجبني ما قاله "طُرقاً فوق الماء"

- سيرًا تشّق الطرق..

وحين تنظر للوراء..

يتراءى الطريق..

الذي لن تعود لتسيره مطلقًا..

أيها السائر

ليس ثمة طريق..

بل علامات على سطح الماء..

بل علامات على سطح الماء..

بل علامات على سطح الماء..

- أتدري الطريق لن يكون موجوداً بعد أن نسير.

أتدري، لا أحب زوال الشمس!

- لكننا في العصر ستغرب الشمس لتظهر من جديد في اليوم التالي.

- أكره زوالها في منتصف النهار حين تختفي الظلال وكأنه لا يوجد عالم سوى صمت مطبق. لا ظلال أي لا حياة.

أجهشتُ بالبكاء فمد لي منديله المفعم برائحة الليمون. حاول أن يلطف الجو الذي تعكر:

- على فكرة، يعجبني عزيزتي ما تنسجيه من قصص.

- كيف تحبها وأنت تفكك أوصالها، وتقوضّ كل ما أبنيه إلى أشلاء.

- أدلك على طريق الخلاص. النقد لغةٌ لا يفهما الكل، لغة بها الكثير من الحب لهدم المألوف، وبناء الأجمل.

- إذاً، كان النقد فخاً سقطتُ فيه بملء إرادتي.

- إنما بوتقة ينصهر فيها الفحم ليخرج الماس.

أطرق ثم رفع رأسه:

- سؤال إن سمحتي. هل دعوتِ غيري للممشى؟

- لِمَ تسأل؟ الحقيقة ثقيلة. هل ستجيب إن سألتكَ نفس السؤال؟!

- نعم و لا. نحن مثل النصوص بعضها جلي كعين الشمس وبعضها مرمز ونصوص أخرى تتقاطع مع الأولى والثانية لكن نسعى لأن نقرأ الآخرين.

أيها أنت؟

أنا نص مفتوح على مصراعيه

لذت بالصمت أتحدث مع نفسي: يا ترى أي بحور جابها وأي شواطئ رست سفينته على أعتابها، كم حقائب سافر بها، وكم أحذية سارت معه وكم قميص نزعها عن جسده، كم كتب أهملها حتى كساها الغبار؟

قطع أفكاري :

- أرجو المعذرة.. أسأل لأعرف متى.. وأين.. وكيف أسير. ومتى أصل. إن شئتِ ألا تجيبي.

- سؤال واحد فقط في كل مرة. الآخرون ليسوا مثلك سقطوا في الامتحان.

- امتحان؟

- قراءة الشعر. من يتريض معي فليحسن قراءة الشعر قلباً وقالبًا.

ضربة بعد ضربة،

بيت شعر بعد بيت..

عندما لم يعد العصفور قادرًا على التغريد..

عندما أصبح الشاعر حاجًا..

عندما لم تعد تجدي صلواتنا..

أيها السائر ليس ثمة طريق..

السير يصنع الطريق..

ضربة بعد ضربة،

بيت شعر بعد بيت…

- هذا ماتشادو؟

- هو وأنا الطريق.

نص ورسم

نجاة الشافعي

اكتوبر ٢٠٢٣م

مبروكة

حوار في الممشى

بركة

 

سرنا نتريض في الممشى ثم انبرى قائلاً:

 

- اِنظري للغيوم السمراء، يمكِن أن تمطر.  

 

- لم تخبرني "النخلة المائلة" بذلك.

 

سكت طويلاً كمن أصابه الخرس. أول مرة أخبرته عن كلامي مع النخلة المائلة حاول أن يقنعني أنها خيالات جامحة، ثم وعندما أحس بغضبي إن أنكر ذلك صار يجاريني.

 

- ماذا تحبين أن نسمي صديقتكِ النخلة؟

 

- سوف اسألها، يمكن لا ترغب أن نطلق عليها اِسماً سوى "النخلة المائلة". أتعلم أن النخل جدي.

 

- هل أنت من عائلة النخل؟! ألا يكفي إنك تتحدثي إليها!

 

- في الواقع إن جدي كانت لديه نخلتان في الحوش العتيق. واحدة تثمر ذهباً أصفراً والأخرى ياقوتاً أحمراً.

 

- جميل. لم يكن لدينا نخل لكن أمي فنانة نخل. تلون سعف النخل وتسفه فتصنع منه السلال والمهفات وسفر للطعام. وتبيعها بسعر زهيد. عندما توفت وضعنا سعفها وألوانها معها كما أوصت، اندثرت مهنتها لكن الكبار في الحي ما زالوا يذكرون أمي "بنت السعف" كما كانوا يسمونها.

 

- ونشأت أرى النخلتان الممشوقتان أمامي وألعب معهما ورفيقاتي. نعقد من خلال النخل عقوداً نزين بها أعناقنا وأيدينا. نلتقط الرطب عندما يسقط خلسة عن جدي.

 

- ما الذي حدث لهما، أما زالتا على قيد الحياة؟

 

- للأسف، توفي جدي، وأهملت النخلتان، وبقيتا كشبحين لا تثمران. ثم بيع بيت جدي لغريب استوطن الحي.

 

- هذا مؤلم.. فراق الأحبة.

 

- أسمِعتَ عن نخلة اسمها "مبروكة"؟

 

- نخلتنا؟ مبروكة؟

 

- لا "مبروكة" هي نخلة ضاربة بجذورها في تخوم أرض فلسطين. وعندما عاد يوسف العلي من المنفى في سن الستين لم يجد إلا مبروكة واقفة في استقباله، والمكان خراب فقام يحكي لها كل ذكرياته عن المكان الذي تقف فيه النخلة وأهله الذين عاشوا في ظلها، وحكى لها عن حبيبته فاطمة بنت جيرانهم التي كان يخبأ لها الرسائل في جذعها. وكان متفجعاً عندما عرف أن فاطمة قضت نحبها في مخيم عين الحلوة للاجئين. كانت النخلة مبروكة تغني معه وتبادله الحديث مثل نخلتنا.

 

- موجع أن تعود للمكان الذي تعشقه، وتراه قد ذاب. مبروكة مثل نخلتكِ تتحدث! أسمعتِ عن نخلتي جبير؟

 

- نخلتي جبير؟!

 

- جبير المليحان، كاتب مدمن للنخل، كانت لديه في قصته "النخلة"، نخلة سعفها كأنه جدائل بناته؛ لكن جاء مغتصبو الأوطان فقلعوها من جذورها، والنخلة الأخرى "أم اليتامى" في قصة "شغاف النخل" أقتلعها صاحبها بنفسه ليقوم أود أبنائه لذلك أقام لها جنازة وصنع لها قبراً ولفها بشماغه الأحمر.

 

- هذا مؤلم أن تُسرق نخلتك جهاراً نهاراً أو أن تنحر حبيبتك النخلة بيديك؛ لكن نخلتنا لا يشبهها أحد.

 

- أتغارين من النخل الآخر؟!

 

- ليس غيرة فقط، بل هوساً.  

 

- أنا أحب النخل؛ لكن لم تتحدث معي نخلة إلى الآن، وصديقتكِ المائلة التي لم تسميها بعد تتحدث إليكِ فقط.

 

- لا تقلق. أنا سأشد حبل الوصل بينكما.

 

- هل أخبرتِ النخلة المائلة عني؟

 

- كل مرة أعبر بها، أقف، أعانقها وأحكي لها عنك. النخل يحتاج أن نغديه ويغدينا بالعاطفة.

 

- هل نخلتكِ تعشق الشعر مثلك؟

 

- بل هي من علمتني الشعر.

 

أطرقتُ برأسي برهة أسدد نظراتي للنخلة المائلة وأناجيها بدون أن يسمعني: لن أبوح له بسر النخيل!

 

- مظفر النواب قال: النخلة أرض عربية.

 

- فقط عربية؟!

 

- ورمز إنساني، النخلة امرأة ووطن.

 

- النخلة وطن. من لديه نخلة لديه وطن.  أتعلم إني أشعر بأن النخل يتحدث مع بعضه؟

 

- كيف؟

 

- من خلال السعف له صوت هسهسة خاصة، لغة خاصة بها تتواصل فيما بينها.

 

- هل تعلمت هذه اللغة؟

 

- علمتني النخلة المائلة قليلاً منها وما زال أمامي الكثير لأتعلمه؛ لكن للنخل أسرار.

 

شعرت بأني شهرزاد وهو شهريار، وقد حان وقت المغادرة فسكّتُ عن الكلام المباح. 

 

رسم وكتابة: نجاة الشافعي 

المقهى أم الممشى

حوار في الممشى

زوجة أعلنت براءتها من زوج عقيم

لاكت سمعتي الألسن. صَبَّوا جَامَ غَضَبِهِم عَلَيْ، من يعرفني ومن لا يعرفني. هجرنني حتى الصديقات، وعشت وِحدَة مطبقة فتكت شيئاً فشيئاً بأعصابي؛ لذلك أدمنتُ الحبوب المهدئة وتحسين المزاج. وبعد أن مهدوا الطريق، وصبوا فيه الاسفلت صار هناك ممشى للحيّ. صار المشي رفيقي الدائم، سلوتي وعزائي. وعاد قلبي ليحيا بما أسقيه فيه من أمل، وفي الممشى قدمت دعوة مفتوحة لرجل آخر ليقطع الطريق معي بعد أن هدأت عواصف الداخل والخارج.

 

جلسنا نلتقط أنفاسنا بعد أن ذرعنا الممشى ذهاباً وإياباً خمس مرات. كانت لقاءاتنا كلّها عن طريق الصدفة المتعمدة. أشاهده من شرفتي يذرع الممشى فأسارع بالنزول. عندما نلتقي كلانا يصطنع الدهشة. أول مرة أنا دعوته للمشي ثم صار يجيء بمحض إرادته، ومع مرور الأيام أدمنّا المسير في طريق طوله كيلومتر واحد مرصع بشجيرات الورد والنخيل.

 

في أول سيرنا أصاب شفتيّ الخدر. في داخلي أنثى جريحة يصعب عليها البوح. بدأ هو الحديث بعد مسير صامت. قال متوجساً:

 

ـ اًقول لج شي..

 

- أرجوك! وقع العامية على أذني نشاز.

 

- حسناً! عزيزتي. أصارحكِ بأمر ما؟

 

- تفضل.

 

حسبته سيخبرني بما سمعه عني من أقاويل لكنه قال:  

 

- أنتِ أول امرأة تدعوني إلى الممشى بدل المقهى!

 

- أتحب المقاهي؟

 

- أرتادها مع أصدقائي.

 

- بالنسبة لي الممشى ملتقى والمقهى مفترق، والمسافة بينهما قد تطول أو تقصر.

 

- متى بدأتي المشي؟

 

- منذ زمن بعيد. الأحياء فقط يمشون!

 

- متى تمشين؟ كل يوم؟

 

-حسب مزاجي.

 

-أليس من ثوابت؟

 

- لا! يعتمد!

 

- أنت غريبة.

 

- أنا مزاجية.

 

- في أول جملة تبادرين: مزاجي سيء، أو مزاجي رائق، أو شبه متعكر، أو حزين، أو لم أنم كنت أفكر في مشاكل العالم. تصرّحين بحالتك النفسية مثل قارئ نشرة الطقس.

 

- لأنك لا تقرأ ما بين السطور.

 

شعرتُ بأنه تضايق ولاذ بالصمت. مشينا بتؤدة، وبدا ظلينا طويلين كقامات النخيل. انتشلتهُ من حالة التوجس:

 

-  أصارحكَ بأمرٍ ما؟

 

-  ماذا؟

 

- أشعر بأن الكلام معكَ يختلف عندما نمشي عما لو كنا جالسين.

 

- كيف؟!

 

- ألا تشعر عندما نمشى بأن التراب يبتهج لوقع خطانا، أن كل نخلة تنتظر أن نمر بها لتصافحنا، أن السماء تنصتُ إلى حكاياتنا، مسيرنا مثل لحن شجي تتناغم فيه حركة اللسان بالقدم بالقلب بالكون.

 

- كأنكِ تبالغين!!

 

- بلّ أبسّط. أليست الأرض دائرية؟

 

- ويعني؟

 

-إذا مشينا من نقطة نعود إليها، وإذا افترقنا سنلتقي. أليس العالم صغير؟  

 

- نكتشف أن العالم صغير جداً حين نعبر جزءً منه.

 

- والعكس صحيح.

 

- لا تكوني متشائمة، الفراق لن يحصل! أنت محور دائرتي.

 

- هل تعني كل ما تقول، وتقول كل ما تعني؟

 

- بالتأكيد! وأنتِ؟

 

- أنا.. أنا أقول ما لا أعني، وأعني ما لا أقول.

 

- هذا طلسم.

 

- أليست الحياة طلاسم؟!

 

- غموض أحياناً، وليست طلاسم. أنا واضحٌ كالشمس، أما أنتِ فغامضة كوجه القمر الخفي.

 

- بل يقال إن الرجال من المريخ والنساء من الزهرة، وأننا نفصح عن مشاعرنا بينما أنتم تخفونها. أتدري أيها المريخي نسيتُ أن أسألك ما هو لونك المفضل، أو متى عيد ميلادك أو كتابك المفضل، ووو..؟

 

- أيتها الزهرة. أنتِ لوني المفضل، ولادتي عندما عرفتكِ، وأنتِ كتابي، وأنتِ صديقتي و..

 

- إذاً أنتَ من انتظرته طويلاً، فليس لي رفاق.

 

غالبتُ دمعةً مدويةً كادت تسقط فيسمعها. ارتجفتْ يدي:

 

- لا أدري لم أشعر بالبرد رغم أن في داخلي كتلة من اللهب.

 

قدم لي معطفه فغصت في رائحته.. مخدّرة مثل زهر الليمون. رائحة تشبه رائحة أبي.

 

في المذياع تصاعد صوت ناعم للمذيعة:

 

- الخطوط مفتوحة! ستُغلق بعد قليل.

 

- أسمعتِ ما تقول؟

 

- تقول الخطوط مفتوحة.

 

- أي خطوط؟ الحمراء؟

 

- الهاتف طبعاً.

كتابة ورسم نجاة الشافعي

لا نَمُلّ في غزة

 

في غزة نسير بين الحطام، نودع قوافل الراحلين، نصطلي بجمر الفراق، نحمل لفائف أكفاننا، نكتب أسماؤنا على أجسادنا، وننتظر دورنا على أحرّ من الجمر.

 

بحث ابني عن نملة يطعمها فتات الخبز. أحبّ النمل منذ كان لديه مشروع العلوم في الأول الابتدائي. خاطبته: ابني ليس لدينا خبز كاف وأنت تطعم النمل. ماما منذ يومين لست أجد نملاً، ربما أختنق بسبب التراب الأبيض أو أنه سافر. ونحن متى سنسافر؟ قلتي لي سنسافر قريباً، وكتبتي اسمي على ذراعي وساقي وصدري وظهري وجبيني وفوق كل شبر من جسدي حتى لا أضيع في المطارات. أجبته: قريبا! ننتظر الأذن بالعبور. حين يصلنا سنسافر فوراً.

 

بدأ ككل مرة يحدثني عن النمل نفس الكلام لا يَمَلّ منه. النمل مخلوق عجيب متعاون ومثابر، هناك ١٢٠٠٠ نوع مختلف من النمل. يبني مستعمرات ويزرع مثل الإنسان وله ملكة. عندما تموت الملكة، تموت بقية المستعمرة بعد بضعة أشهر. مثلكِ ماما. أنت ملكة المنزل منذ سافر أبي. تأمرين وتنهين وتحضرين كل ما نحتاجه من أغراض للمنزل

 

قرقعت ضحكتي في أجواء السكون المطبق ما بين الغارات، الصمت المريب الذي يشي بالمزيد من القصف والدمار.

 

كنا نجلس مختبئين تحت الطاولة ونتبادل الحديث. رميت بجسدي عليه عندما سمعت صوت انفجار هزّ العمارة فاستحالت رماداً.

 

سافرتْ أمي قبلي. وأنا سأسافر بعدها. أجهشتُ بالبكاء، ورسمتُ على ذراعها نملاً، وكتبتُ: أمي الشهيدة ملكة النمل.

 

كتابة ورسم: نجاة الشافعي

٣٠ أكتوبر ٢٠٢٣م

بشارةُ فلسطين

بشارة فلسطين

أجنبي كان في بقالة الحي يبتاع العصير. سمعه جمع من الأطفال يرطن باللغة الإنجليزية مع البائع.

جاءته طفلة جريئة ذات جديلتين طويلتين. سألته بفضول: فلسطين، إسرائيل؟

باغتته بسؤالها. أبتسم لها وأجاب: فلسطين! كررت مبتهجة: فلسطين!! رقصت جديلتيها. تحول وجهها كله إلى ابتسامة عريضة انشقت من النور. عادت للأطفال تبشرهم بفلسطين.

رسم وكتابة: نجاة الشافعي

٢٩ اكتوبر ٢٠٢٣م

!لغة عربية أجنبية

انصبت انظارهم عليّ، مدرستهم ذات النظارة السميكة.

 

أشرح لهم درس الإنجليزي الجديد عن الغذاء في الوحدة السابعة. وصلنا إلى كلمة

: destroy

يعني: يدمر/يهدم/يحطم/يتخلص من.  

كتبتها بيد مرتجفة على السبورة في جملة نقلتها من الكتاب. وضعتُ تحت الكلمة خطاً بالأحمر: "الشركة يجب أن تتخلص من آلاف معلّبات الحساء الغير صالحة للاستهلاك الآدمي".

The company needs to destroy thousands of cans of soup because they're unsafe to eat.

 

خانني التعبير، تلعثمتُ.. ألّف وأدور: تُهَدِّمُ بيت.. أخاتل: تُدَمِّرُ بناية.. أرواغ: تُحَطِّمُ عائلة..

 

نظرتْ إليّ إحدى طالباتي باشمئزاز. قالت عنوة: ماتوا بدون ما ياكلوا!!

الخَبَرُ الحَيّ

 

خرجتُ إلى الخبّاز لأبتاع تسعة أرغفة حيّة. يقع المخبز في الطرف الأقصى من البلدة بجوار المسجد ذي القبة الذهبية الذي يتوسط حقلاً من أشجار التفاح والزيتون. أمرّ في طريقي إلى الخبّاز بالكثير من المحلات الصغيرة ثم أعبر السوق المفتوحة في ساحة البلدة التي يفترشها البائعين والبائعات يعرضون بضائعهم الطازجة والبائتة.

 

كان الجو خريفياً بارداً فاعتمرت قبعة صوفية، وارتديت معطفاً سميكاً. البقالّ أول من مررت به؛ لكن في مكانه وجدت شخصاً آخراً لم أعرفه، أصلعاً حليق الشارب واللحية. هل أنت جديد؟! ضحك: ألم تعرفني؟! لا! تغيرت كثيراً! ابتعتُ منه قارورة حليب صغيرة وأنا مندهش: لم يقم بحلاقة شاربه من قبل!

 

لم ألقي بالتحّية على الجزار كعادتي لأنني عندما مشيتُ بمحاذاته شممتُ رائحة مقززة، وكأنها لفئران ميتة فابتعدت عنه.

 

تذكرت.. أحتاج قلماً ومحبرة فلقد جفت أقلامي فتوقفت عند باب القرطاسية. نظرتُ عبر الزجاج ولم أجد أبو رائد. دخلت المحل وناديت: أبو رائد.. أبو رائد! فأجابني طفل لم يبلغ الرشد: أنا رائد! رائد؟! نعم! أبي لن يحضر اليوم. مريض! تفضل! لكن أبو رائد أخبرني أن ابنه يرتاد الجامعة! ربما خانتني الذاكرة. اِبتعتُ ثلاثة أقلام رصاص، وقلم حبر، ودواة حبر، وحزمة أوراق صفراء، وكعادتي الجريدة اليومية، فقد تحمل أخباراً طازجة.

 

نسيتُ أنّ الطقس بارد، وانتبهت عندما مررتُ ببياع الأحذية إنني أرتدي نعال الحمام. غمرني الخجل من قمة رأسي إلى أخمص قدمي: ماذا سيقول الناس! غطيت قدمي بطرف الجريدة. جلست سريعاً لئلا يرى قدمي البائع المخضرم: إحسان. أحضر لي زوجاً صينياً فارتديته على عجل عندما أدار ظهره ليبحث عن زوج آخر.

 

تجاوزت محلي الأقمشة والملابس الجاهزة فلحسن حظي زوجتي كانت نائمة عندما خرجت، ولم ترهقني بأية طلبات: إبر، خيوط، قماش بمربعات أو مُقلّم، جلابّية مطرزة بزخارف يدوية، الخ...

 

وصلتُ الساحة التي تضجّ بالحياة. طوفانٌ من البشر: الباعة، والمشترين، والمتفرجين، والمشردّين، والروائح تتصارع في الهواء؛ لكنها تخلو من الأطفال. اليوم جمعة يبدو أنهم ما زالوا نائمين.

 

لم أشرب الشاي قبل الخروج من المنزل فتوقفت عند عربة بائع الشاي على الفحم. أعطني شاياً، وزد ثلاث ملاعق من السكر! ارتشفت رشفة حارة أحرقت لساني، طعمه كان مقززاً كالقيء فسكبته في قارعة الطريق.

 

اشتهيتُ البيض عندما مررت بالبائعة المتلثمة فاشتريت ست بيضات مرقطة بالأسود بحجم بيض النعام لكنها أقسمت إنه بيضُ دجاجٍ فاخرٍ من الدرجة الأولى تربيه في مزرعتها. إن كنت سأعدّ لي ولزوجتي شكشوكة للفطور سأحتاج للطماطم والبصل. عند بائع الخضروات توقفت لكن كلّ الطماطم كانت فاسدة فلم أشتريها، وبحثت عن البصل ولم أجد ولا بصلة واحدة في كلّ السوق. انقرض البصل!

 

مررت بتلة من القاذورات، ورأيت ماعزاً تمضغ الأوراق. خالجني الأسى فأسقيتها قنينة الحليب. سأشتري قنينة أخرى في طريقة عودتي لئلا تثور زوجتي، وتسوّد يومي.  

 

أخيراً، وصلت إلى الخبّاز؛ لكنه كان مُغلقاً على غير عادته. أصابني التوتر: هل تأخرت إلى هذه الدرجة فنفد الخبز؟! هل مات قريبٌ له فأغلق المحل؟! ماذا سنأكل في الفطور؟! خبزٌ بائت!!!

 

افترشتُ الجريدة. جلستُ على دكة المخبز يائساً. وضعت يديّ فوق رأسي أفكر بأمرّ الأرغفة الميتة. ستستيقظ زوجتي وتعاتبني على تأخري. مرّ بي بائعٌ قزم اشتريتُ منه علبة سجائر، ورغم إني أقلعتُ عن هذه العادة الذميمة؛ لكن استنشاق النيكوتين، والإمساك بواحدة بين السبابة والإبهام كعادتي السابقة خففّ من قلقي.  

 

سمعتُ المذياع يزمجر.. دويّ المدافع.. وابل من الصواريخ.. انفجار قنابل فسفورية.. أزيز طائرات عمودية.. انهيار عمارات سكنية فرميت بالسجائر القاتلة وهرستها بكعب حذائي الصيني الجديد.

 

في تلك الأثناء سمعت من أحد المارة أن أهل الحي أعدّوا عدّتهم لحفلة تنكرية. لُذّت بالفرار. لا أحب التجمعات الصاخبة. ركضت صوب الحقل. أردت الدخول إلى باحة المسجد، ووجدت الباب مغلقاً في وجهي فساعة الظهر لم تَحُنْ بعد. كانت بعض أشجار الزيتون والتفاح نافقة؛ لكني لم أجد ماء لأسقيها.

 

هبّت عاصفة صحراوية فسدّ أنفاسي الغبار الأبيض. صنعت لي كمامة من الأوراق الصفراء غطيت بها أنفي وفمي.

 

لحقت بي جماهير الحفلة التنكرية. حاصرتني الأقنعة. قناع يسقط، وقناع يرتفع، وقناع يتمزق، وقناع يُحاك، وقناع المهرج أتقدّ، وأحمرّ كفرن الخباز. حينها شهقتُ، بكيتُ، وندبتُ الخُبْزَ الحيّ!

 

١٣ أكتوبر ٢٠٢٣م

نجاة الشافعي