الخَبَرُ الحَيّ

 

خرجتُ إلى الخبّاز لأبتاع تسعة أرغفة حيّة. يقع المخبز في الطرف الأقصى من البلدة بجوار المسجد ذي القبة الذهبية الذي يتوسط حقلاً من أشجار التفاح والزيتون. أمرّ في طريقي إلى الخبّاز بالكثير من المحلات الصغيرة ثم أعبر السوق المفتوحة في ساحة البلدة التي يفترشها البائعين والبائعات يعرضون بضائعهم الطازجة والبائتة.

 

كان الجو خريفياً بارداً فاعتمرت قبعة صوفية، وارتديت معطفاً سميكاً. البقالّ أول من مررت به؛ لكن في مكانه وجدت شخصاً آخراً لم أعرفه، أصلعاً حليق الشارب واللحية. هل أنت جديد؟! ضحك: ألم تعرفني؟! لا! تغيرت كثيراً! ابتعتُ منه قارورة حليب صغيرة وأنا مندهش: لم يقم بحلاقة شاربه من قبل!

 

لم ألقي بالتحّية على الجزار كعادتي لأنني عندما مشيتُ بمحاذاته شممتُ رائحة مقززة، وكأنها لفئران ميتة فابتعدت عنه.

 

تذكرت.. أحتاج قلماً ومحبرة فلقد جفت أقلامي فتوقفت عند باب القرطاسية. نظرتُ عبر الزجاج ولم أجد أبو رائد. دخلت المحل وناديت: أبو رائد.. أبو رائد! فأجابني طفل لم يبلغ الرشد: أنا رائد! رائد؟! نعم! أبي لن يحضر اليوم. مريض! تفضل! لكن أبو رائد أخبرني أن ابنه يرتاد الجامعة! ربما خانتني الذاكرة. اِبتعتُ ثلاثة أقلام رصاص، وقلم حبر، ودواة حبر، وحزمة أوراق صفراء، وكعادتي الجريدة اليومية، فقد تحمل أخباراً طازجة.

 

نسيتُ أنّ الطقس بارد، وانتبهت عندما مررتُ ببياع الأحذية إنني أرتدي نعال الحمام. غمرني الخجل من قمة رأسي إلى أخمص قدمي: ماذا سيقول الناس! غطيت قدمي بطرف الجريدة. جلست سريعاً لئلا يرى قدمي البائع المخضرم: إحسان. أحضر لي زوجاً صينياً فارتديته على عجل عندما أدار ظهره ليبحث عن زوج آخر.

 

تجاوزت محلي الأقمشة والملابس الجاهزة فلحسن حظي زوجتي كانت نائمة عندما خرجت، ولم ترهقني بأية طلبات: إبر، خيوط، قماش بمربعات أو مُقلّم، جلابّية مطرزة بزخارف يدوية، الخ...

 

وصلتُ الساحة التي تضجّ بالحياة. طوفانٌ من البشر: الباعة، والمشترين، والمتفرجين، والمشردّين، والروائح تتصارع في الهواء؛ لكنها تخلو من الأطفال. اليوم جمعة يبدو أنهم ما زالوا نائمين.

 

لم أشرب الشاي قبل الخروج من المنزل فتوقفت عند عربة بائع الشاي على الفحم. أعطني شاياً، وزد ثلاث ملاعق من السكر! ارتشفت رشفة حارة أحرقت لساني، طعمه كان مقززاً كالقيء فسكبته في قارعة الطريق.

 

اشتهيتُ البيض عندما مررت بالبائعة المتلثمة فاشتريت ست بيضات مرقطة بالأسود بحجم بيض النعام لكنها أقسمت إنه بيضُ دجاجٍ فاخرٍ من الدرجة الأولى تربيه في مزرعتها. إن كنت سأعدّ لي ولزوجتي شكشوكة للفطور سأحتاج للطماطم والبصل. عند بائع الخضروات توقفت لكن كلّ الطماطم كانت فاسدة فلم أشتريها، وبحثت عن البصل ولم أجد ولا بصلة واحدة في كلّ السوق. انقرض البصل!

 

مررت بتلة من القاذورات، ورأيت ماعزاً تمضغ الأوراق. خالجني الأسى فأسقيتها قنينة الحليب. سأشتري قنينة أخرى في طريقة عودتي لئلا تثور زوجتي، وتسوّد يومي.  

 

أخيراً، وصلت إلى الخبّاز؛ لكنه كان مُغلقاً على غير عادته. أصابني التوتر: هل تأخرت إلى هذه الدرجة فنفد الخبز؟! هل مات قريبٌ له فأغلق المحل؟! ماذا سنأكل في الفطور؟! خبزٌ بائت!!!

 

افترشتُ الجريدة. جلستُ على دكة المخبز يائساً. وضعت يديّ فوق رأسي أفكر بأمرّ الأرغفة الميتة. ستستيقظ زوجتي وتعاتبني على تأخري. مرّ بي بائعٌ قزم اشتريتُ منه علبة سجائر، ورغم إني أقلعتُ عن هذه العادة الذميمة؛ لكن استنشاق النيكوتين، والإمساك بواحدة بين السبابة والإبهام كعادتي السابقة خففّ من قلقي.  

 

سمعتُ المذياع يزمجر.. دويّ المدافع.. وابل من الصواريخ.. انفجار قنابل فسفورية.. أزيز طائرات عمودية.. انهيار عمارات سكنية فرميت بالسجائر القاتلة وهرستها بكعب حذائي الصيني الجديد.

 

في تلك الأثناء سمعت من أحد المارة أن أهل الحي أعدّوا عدّتهم لحفلة تنكرية. لُذّت بالفرار. لا أحب التجمعات الصاخبة. ركضت صوب الحقل. أردت الدخول إلى باحة المسجد، ووجدت الباب مغلقاً في وجهي فساعة الظهر لم تَحُنْ بعد. كانت بعض أشجار الزيتون والتفاح نافقة؛ لكني لم أجد ماء لأسقيها.

 

هبّت عاصفة صحراوية فسدّ أنفاسي الغبار الأبيض. صنعت لي كمامة من الأوراق الصفراء غطيت بها أنفي وفمي.

 

لحقت بي جماهير الحفلة التنكرية. حاصرتني الأقنعة. قناع يسقط، وقناع يرتفع، وقناع يتمزق، وقناع يُحاك، وقناع المهرج أتقدّ، وأحمرّ كفرن الخباز. حينها شهقتُ، بكيتُ، وندبتُ الخُبْزَ الحيّ!

 

١٣ أكتوبر ٢٠٢٣م

نجاة الشافعي