الثور


استاءتْ جدتي من جلوسها في قاعة الانتظار لمدة طويلة، وقدماها محنطتان فوق دواستين ملتصقتين بالكرسي المتحرك. في رأسها قد تسارع الزمن في دورانه فغدت السنين أياماً، والأيام ساعات، والساعات دقائق. تجمدّت إحدى قدميها، وبدأ سِرْبٌ من النمل يدبّ في أعصابها. هزّتها بشدة لتتدفق الدماء فتُغرِق هذا الجيش المتحرك.

 

أصابت جدتي جلطة في دماغها عقب عملية فتح الشريان الأورطي المنسّد في قلبها الهرم. وبعد الجلطةُ أنعقد لسانها. تحاول جاهدة أن تَستحلِب من ذاكرتها المفردات المتسقة مع المعاني التي تستذكرها في رأسها فلا تنطق إلاّ بأحاجيّ يصعُب فكّها. تتفوه أحياناً بعباراتٍ لا تَمُّت لما تَرمِي إليه بِصِلَّة. كلمة "العسل" الذي تحبه تنقلب إلى "فف..حح..ممم" و"موز" إلى "رر..ااا..زز".

 

تهتاجُ كلما أخبرتها أمي عن مواعيدها. حين تسمع كلمة "دكتور" تتذكر ساخطة عملية القلب التي أدت للجلطة فتكرّر كالممسوسة، وبصوت عالٍ: ثثووووررر!! خوفّناها أنا وأخي بأنه لو سمعها الناس تسمي الطبيب ثوراً ستعتبر بمثابة إهانة قد تتسبب في عقابها ودفع غرامة للتعدي على الطبيب. لجمت لسانها الثقيل ليس خشية من ذلك، بل خشية من أن نحرمها من الشكولاتة التي تعشقها.

 

سألتْ جدتي: كم الساعة؟! لكن همهمتْ وتمتمتْ بكلمات مبتورة: ...سا سااا ساا!!

 

فَهِمتُ ما تريده فأجبتها مُصطَنِعة اللطافة أمام حشد المنتظرين في القاعة المكتظة بالمرضى ومرافقيهم. رفعتُ صوتي قليلاً لتسمعني جيدًا. تأنّيتُ في النطق: ااص ص ب ب رريي! ناولتها برقّة زائدة عن المعتاد سندويشة لبنة، قنينة ماء صغيرة، والدواء. ألهاها تناول الطعام والشراب قليلاً، وسرعان ما دخلت في حالة من الاستياء بعد أن التهمتْ السندويشة بثلاث لقمات دفعة واحدة. ثم أعطيتها موزة فازدردتها متعجلة. سكتتْ تُحدّق في الوجوه، تنصتْ للممرضات بالزيّ الأبيض يذرُعن الدهليز المؤدي لغرف الأطباء ويصُحن بأسماء المرضى.

 

ااص ص ب ب رريي! كررتها عشرات المرات في هذا الصباح الطويل كلما سألتني عن الوقت. صارت تسببُ لها ضيقاً فتلوّح بيديها وتُتمتِم متذمرةً بكلام متشنج غير مفهوم. رغم علو صوتها وغرابة ما تتلفظُ به تجنب قلّةٌ من المرضى المهذبين النظر إليها لئلا يتسببوا لها بالإحراج، وتلاهى البعض الآخر بوضع سماعات في آذانهم تجنباً للإزعاج.

 

أخبرتها أمي منذ الليلة الماضية أنها ستذهب لموعد في المستشفى مع طبيب القلب، وعليها الاستيقاظ باكراً. هزّت رأسها ممتعضة. صرخت عدة مرات: ل لل اااااا. ثثث ووو ررر!!. عادة ترافقها والدتي للمستشفى لكنها كانت مصابة بالأنفلونزا فألقت عليّ المسؤولية كعادتها لأني البنت الكبرى التي تتحمل العبء الأكبر في العائلة.

 

أيقظنا جدتي رغماً عنها قبل صياح الديك. انتشلناها بمعونة الخادمة من سريرها حيث تتمدد كمسطرة متخشبة. صفّفنا شعرها الأبيض المجعد. ألبسناها ملابسَ مكوية، وعباءة حريرية لامعة، وأساور ذهبية. بخرناها بالعود في اهتمام مبالغ فيه بأناقتها. وضعناها في مقعد السيارة الخلفي، تلهث وتئن وترتجف. أنزلناها عند الباب. أجلسناها بصعوبة في الكرسي المتحرك. دفعناها في ممرات تضيق من شدة الزحام، تتصاعد فيها رائحة القهوة العبقة والطعام الشهي ممتزجة بروائح العرق الزنخة والمنظفات الرخيصة.

 

سحبتُ قِشرةَ الموزة من بين أصابعها المتشنجة. غفت لدقائق معدودة، وتصاعد شخيرها. ثم جاء دورها.

 

ادخلتها إلى الطبيب البارع المتخصص في القلب والذي أجرى لها العملية. شعرتُ بالحرج الكبير عندما بدأت ترفع صوتها بانفعال: ثثث وو ووو ررررر!! كدت أن أنهرها: اسكتي!!  فجأة.. أصابني الذهول عندما رأيت صورة معلقة على الجدار خلف الطبيب. حلبة مصارعة يتجمهر فيها حضور غفير يتوسطها ثورٌ يقفز متحدياً مصارع الثيران المُرتعِب منه والرماح مغروسة في ظهره كالأعلام، بينما الدماء تسيل من جسده.

 

نجاة الشافعي