قصة قصيرة: قيامة الفراشات
بَهتتْ رسومي الطباشيرية التي زينّتُ بها جدران بيتنا العتيق في المدينة القديمة. أصفرّ وجه النخلة الشاحب، ذبلت أوراق الزيتون، الجداول تئّن من العطش، الملح ترسبّ في الحقول فهجرتها الحمائم والنسور.
وقفتُ أمام باب البيت الكبير حاملة دميتي. مفتاحي ضاع مني فدفعتُ الباب لأفتحه؛ لكنّه صَمَدَ في وجهي. صِحتُ بجدتي وجدي، بأمي وأبي ثم توسلتُ بإخواني واحداً واحداً. لم يجبني سوى رجع الصدى فجِبتُ الأزقة بلا هدى.
وصلتُ لبيت عمي. "ذهبوا كلّهم إلى السوق!"، قال ابن عمي. "تعالي معي لنلعب؟" دخلنا غرفة أمه حيث تخبئ أمشاطها وحنائّها في الدولاب الخشبي ذي الظلفتين. قدمّت له رسغي ليرسم لي فراشة صغيرة تحطّ على غصن وردة. حمىّ الإبرة حتى أحمرّت عينها. غمسّها في ذرور أزرق. خرقت جلدي. بحّ صوتي من شدة الصراخ. رفسته ليتوقف فشدّ ضفائري. لم يستطع أن يرسم فراشة بأنامله المرتجفة، وبدتْ علامة مثل الزائد حُفِرَت في يدي إلى الأبد.
غسلّت أمي شعري الطويل. دعكت كوعيّ وركبتيّ المتسختين بالصابون. أهرقت الماء على جسدي ثم أطبقت بيدها الثقيلة على رسغي عندما لمحت الوشم. اهتاجتْ وماجت. صفعتني على خدي. انتفضتُ، وفغرتُ فاهي. تحجرتْ الدموع في مقلتيّ. تعرضتُ للضرب المبرّح بعصا أبي التي كانت فيما مضى ترحمني، وتبطش بأجساد إخواني. كسرت أمي رقبة دميتي، قصتّ ضفائري، وحبستني في المنزل.
تسلّلت في الفجر على أطراف أصابعي. سبحتُ بمهارة وعبرتُ النهر، لعبتُ بطائرتي الورقية في الضفة الأخرى. طيّرتها عالياً فانفلت الحبل من يدي. حلقتْ وحيدة في الفضاء، وقعتْ خلف أسوار المدينة. عدتُ باكية للمنزل. كان خالياً فتوسدت الصمت ونمت.
منذ استيقظت صرّت حادة البصر مثل يمامة زرقاء أرى من مكاني ما في داخل المنازل وخلف أسوار المدن، أبصر الفراشات حتى من بعيد أقصى، ملونة بالأحمر والأخضر، منقطة بالأبيض والأسود، أسمع حفيف أجنحتها الرهيفة حين تخفق ألحاناً بهيجة فتهزّ النسيم.
كَبِرْتُ لكن في داخلي طفلة لا تكبر، تظلّ فراشة راسخة في ذاكرتها، محبوسة في رسغها، تنتظر انبعاثها يوم قيامة الفراشات حين تخضر الأرض وتحمرّ السماء، عندما يسطع النور ماحقاً الظلام، وتغتسل أجنحتها بعبق المطر.
كتابة ورسم
#نجاة_الشافعي
٩ اكتوبر ٢٠٢٣م