ضالة منشودة
اِنطَلَقْتُ مبتهجة فلقد حان وقت الاحتفاء بالكتاب الذي انتظره كل عام بشغف. تأجرّت سيارة من المطار. وصلتُ إلى معرض الكتاب ترافقني مشاعري الحميمة حيث نشأتُ بين دفتي الكتب في مكتبة والدي، وكانت آخر هدية منه قبل رحيله اشتراك لي في مجلة العربي لمدة عام كامل.
قفزتُ بسرعة للداخل. أدهشني البحر المتلاطم من الكتب، وشعرتُ بأني لست سوى نقطة آخر السطر. قصرّتُ خطواتي. مشيتُ ببطء أستنشق عبير الحبر، تتلذّذُ عيناي بمصافحة أغلفة الكتب، والتمعن في رواد المعرض. أتفحص نوعية الكتب التي يشترونها أو يتوقفون عندها أنصِتُ لأحاديثهم وأشعر بالبهجة التي ترتسم في محياهم عندما يقتنون الكتب. ثمت سحر ما أحسست به في المكان جعلني أحلق بين الأروقة بجناحي فراشة وخفة ريشة.
تذكرتُ ما جئت لأجله. نظرتُ إلى الخرائط التي نُصِبت في شاشات مضيئة بين زوايا المعرض؛ لكنني لم أستدِلّ على مَحَلّ منصة التوقيع. أمسكتْ بيدي مدرستي المصرية "هدى فتوحه" مدرسة الجغرافيا ورفعتها عالياً، شعرتُ مثل الأبطال. أطربني مديحها عندما دللتها على خطأ في خريطة الجزيرة العربية في الكتاب فصفقّن ليّ الطالبات طويلاً. شعرتُ بالزهو الذي بدأ يصفعني على وجهي، وأنا أنظر لطلاسم خريطة تاهت منيّ أحاول فكّها ممتعضة. كنتُ أحتاج أن ألمس الخريطة، وأتفاعل معها كما كنت أقلّب صفحات كتاب الجغرافيا، وأدير خرائطه بين راحتي.
سألتُ من مررت به من المرشدات والمرشدين. كلّهم يرتدون زياً أزرقاً بهيجاً، تناثروا كحبات عقد انفرط في سماء المعرض. ارتسمتْ على وجوههم علامات تعجب واستفهام، تدلت فوق شفاه بعضهم ابتسامات بليدة، وواحد هَرشَ رأسه وهو ذاهل: لا يوجد منصة ١٣! آخر شيء منصة ١٢! بَسْ اِسألي قِدّام.
شعرت بوحش أصفر ينهش قلبي: أين المنصة ١٣؟! هل هي موجودة أم إنّي أخطأت في الرقم؟! وإن كانت موجودة لِمَ ألقُوا بها بعيداً عن المدخل في مكان متوارٍ عن الأنظار؟! لو كان كاتباً مشهوراً سيُمهِر بتوقيعه الكريم كتابه أو كاتبة بنت حسب ونسب هل سيُلقُون بهما في منصة نائية!
سِرتُ بصعوبة وسط الزحام البشري أتفادى الارتطام بمرتادي المعرض، وغنائمهم من الكتب التي حُشِرت في أكياس ثقيلة. اِنفلَت طفل من يد أبيه، اصطدم بي، أسقط حقيبتي ففغرت فاهها، وتناثر ما في جعبتها من مجلات العربي التي رافقتني في رحلتي الجويّة إلى حيث المعرض. أمسك أبوه بيده، سحبه بقوة، ومرّا بجواري ولم يعتذر. نظرتُ له مستاءة من سلوكه البغيض.
أدركني الوقت؛ لكنني مازلّتُ حائرة أجذّف في التيه. أطوف في دوائر مفرغة. مرّرت بنفس الدُور والكتب والبائعين. مسيري المتخبط لفتُّ ليّ الانتباه فتفحصني بعضهم بفضول واستغراب. ثم لخيبة أملي وجدت نفسي عند نفس البوابة التي دخلت منها. هدنّي الإعياء، وشعرتُ بالعطش الشديد؛ لكن يخلو المكان من قنينة ماء واحدة لأن الأشربة والأطعمة مُنِعت من الدخول.
مررتُ بدور نشر لا تعدّ ولا تحصى. كلّها متشابهة: الرفوف، الكتب، الباعة، ولافتات الخصم صاعدة نازلة، تصل في بعضها إلى ٢٥٪، وتهبط في أخرى إلى ٥٪ أو اشتري كتابين والثالث مجاناً. حيل ماهرة لبائعين محترفين يصطادون بها زبائن الكتب. شَهِدتُ مبتهجة في جولتي ولادة دور نشر جديدة، وافتقدتُ بأسى بالغ دور نشر قد انقرضت في زمن هلامي يتمدد كأخطبوط يخنِقُ كل ما هو مصنوع من الورق.
توقفتُ لأستريح. خاطبتُ البائع الشاب في دار مرموقة يتقاطر عليها المريدون: هذا الكاتب هل لديكم اِصداره الجديد! هزّ كتفيه وأجابني ببرود: ما أدري! أنا بائع مؤقت! ثم أكمل لعبه في هاتفه. أشحتُ بوجهي بعيداً عنه، وفررِت منه.
استوقفتني لوحة ضخمة زينتْ بها دار نشر واجهتها. أطلتُ التحديق فيها باندهاش حتى كدتُ أن أنسى المكان والزمان وما جاء بي للمعرض. لوحة "ألعاب الأطفال" للرسام الهولندي بيتر بروغل تنطق بالحياة. لعبتُ مع الأطفال الأشقياء في ساحة البلدة. ضربت واحداً منهم خلسة بحجر. ركضت لاهثة أجري ويلحقني. تقرقع ضحكاتي في الطرقات.
انتشلتني بائعة لبقة من لعبة المطاردة: مرحباً بك سيدتي! أتحبين قصص الأطفال؟! جداً! في الواقع بدأتُ في كتابة قصة، ولم أكملها بعد. حقاً! هذه دار نشر أسستها كاتبة للأطفال، ومعظم القصص من تأليفها بإخراج عصري جميل. تابعينا على الانستغرام. سأفعل! اقرأي لها لتحيطي علماً بفن الكتابة للأطفال. هززت برأسي. نعم، ليس سهلاً! ومجموعة القصص الشيقة هذه عليها تخفيض خاص بالمعرض ٢٠٪. تصفحتها بانبهار، أغرتني باقتنائها فاشتريتها لابنتي التي تُفرغ حقائبي حين العودة للمنزل.
مرّ الوقت ومازلت ضالّة أهرول بلا سُدى. رأيت واحداً من المرشدين: أوه، المنصة ١٣ موجودة لكن بعيدة عن هنا! كانت في القاعة ٥ لكن غيروا مكانها. هي في القاعة ٧ عند بوابة ٥. اسألي قِدّام وسيدلّونكِ عليها.
رنّ هاتفي، أجبتُ صديقتي: نعم!! وصلتُ منذ ساعة؛ لكني مازلت أبحث عن المنصة ١٣!! أنتِ أيضاً تبحثي عنها منذ ثلاث ساعات!!
أغلقتُ الهاتف، وعدِتُ أدراجي. قفلتُ راجعة بخيبة أمل ترزح بها خطواتي المتثاقلة. كاتبتي المفضلة استهجنتْ معاملتها الدونية، استنكرت وشجبت التوقيع في المنصة ١٣ المنزوية عن الأنظار، والتي لا تليق بمكانتها الأدبية فخرجتْ غاضبة من المعرض.
مسيرة العودة كانت متخبطة أيضاً. أين مدخل المعرض رقم ٩ الذي أوقفتُ عنده سيارة الأجرة؟! في تلك الأثناء شعرتُ بثقل الحقيبة ينخر كتفي، وحذائي يهرِس قدمي. لعنتُ خرائط (جوجل) التي أصابت عقلي بالخرف، وسلبت مني ذاكرة الاتجاهات. أليست هي بنت الـ... التي تدعي إنها تقوم بإرشاد الضائعين مثلي داخل الطرقات المجهولة؟!
في طريقي مررت بمنصة ٧. توقفتُ عندها لألتقط أنفاسي. وجدتُ قارئة قصص تحمل فرحاً في جعبتها. افترشتُ مقعداً بينهم، وتحلقّ حولنا الأطفال. رحبتْ بي. دفنتُ وجعي وابتسمتُ لها. لم أخبر أحداً أنّي صاحبة منصة مفقودة.