قواريرُ الحياة

قواريرُ الحياة

 

قواريرُ الحياة

 

نظرتُ لقارورة ماء زمزم الثمينة التي جلبتها أمي وصَبَبْتُ القليلُ منها في قدح زجاجي شفاف ليتسنى لي مراقبة قطرات الماء وهي تنهمر رقراقة في جوفه. أصختُ السمعَ لشدوها الشجي حين عانقتْ القاع ورّنَتْ في أذني أصوات التلبية. شرِبتهُ متلذذة بنسائم الحرم الذي افتقدتُ زيارته منذ نشوب مرضِ الكورونا، وقلّبتْ الصور التي أرسلتها أمي لمعالم الحرم مواجعي. رأيتُ الكعبة المشرفة في حلتها القشيبة يطوفُ بها أسراب المعتمرين والمعتمرات بلباس طيور بيضاء فعصفَ بيّ الحنين وماجَتْ الأشواق وتمنيت لو كنت حمامة تحلق معهم

ثم قمتُ بِصَفّ قناني الماء البلاستيكية صفاً صفا كعادتي كل صباح. صنّفتُها إلى مجموعات حسب أحجامها، في الصف الأول كانت القصيرة التي تتسع لحوالي مئتين مليلتر، وخلفها المتوسطة القامة ذات سعة النصف لتر، وآخر صف مجموعة قوارير اللتر ونصف التي ارتفعت قامتها وأطلت شامخة برؤوسها من خلفها. ابهجني منظر حشد القوارير المهيب، قوارير الحياة.

 

كُلُها قواريرٌ بلاستيكية فَرِغَتْ من ماء الشرب الحلو فأعدتُ استخدامها، وعبأتُها بمياه الصنبور المالحة، ورتبتها بهوسٍ بالغ على منضدة المطبخ بين الفرن وحوض الغسيل. بدأتُ صامتةً بإعداد فطوري المتواضع، اَتَبِّعُ حميةً غذائيةً فآكل بيضتين مسلوقتين، وأشربُ كأساً من الشاي بالحليب بدون سكر. سمِعتُ حشرجةَ محتضرٍ جفّ ريقه في لحظاته الأخيرة حين فتحتُ الصنبور لأملأ القدر الصغير، حدثَ ما كنتُ أخشاه؛ لقد انقطع الماء! غضِبتُ فانتفخت أوداجي، البارحة لم يأتي الماء إلا في وقت متأخر والآن رحلَ مبكراً؛ لذلك سوف يتأخر كل شيء في هذا اليوم: طبخ الغذاء، وغسل الملابس والاستحمام وحتى الصلاة. يا إلهي كم أمقت فَقْرُ الماءِ فهو أشدّ وطأةً من فقرِ الدمِ فبدونه تتوقف عجلة الحياة عن الدوران وينتابني القلق والاكتئاب.

 

قليتُ البيضتين لكي أوفّر ماء السلق فعليّ التقشف حتى يحلّ المساء الذي قد يحمل بشرى تدفق المياه من جديد في شرايين الأنابيب القاحلة. حملتُ الفطور لغرفة المكتب، وجلستُ أمام الشاشة الفارغة لجهاز الكمبيوتر أُعْمِلُ فِكْرِي في بواكير قصتي الجديدة التي ما زالت غضّة طرية، ودارَ في رأسي حوارٌ محتدِمٌ بين شخصياتها في حرمِ المَدْرَسَة.

 

كانت أماني، مديرة المدرسة الابتدائية، تصرخُ بفجاجةٍ وتتهِمُني علناً: "هي الغلطانة! لا تتمكن من إدارة مواردها المائية، يجب أن توفّر الماء بدل اسرافها في استخدامه! ألا تفهم إن مدينتها تستلقي في حضن الصحراء، من أين يأتون بالماء الكافي للجميع! أيضربون الرمال الناعمة بعصاً سحريةً فينبع الماء!" قهقهتْ بصوت عالٍ سمعته كل المعلمات وتابعت القول: "والأدهى والأمر إنها لا تُجِيد التحدث مع شركة المياه، تلومهم بتهكم: "أين الماء! صارَ أغلى من الذهب!!" تباً لها، تجبرهم أن يغلقوا سماعة الهاتف في وجهها لأنها لا تسألهم بلطف أن يفحصوا سبب المشكلة. تستاهل ما يحدث لها، لا حِنكة لديها في التعامل مع الناس مثلي!"

 

أمّا مريم معلمة العلوم فضحِكَتْ منها بسخريتها المعتادة معتقدةٌ إنها الوحيدة من بين الشخصيات التي لديها عقل حاذق وتحليل بارع فأجابتْ قائلة: "ما عليكِ من أماني التي لا تفقه شيئاً في الحياة أو المياه! اسمعيني جيداً! لا أمر يحدث بدون فعل فاعل، اكتشفي من يقطعُ عنك الماء فجاراتك لا يعانين مثلك. ألأنك وحيدة فريدة يستغلونك، ويقطعون عنكِ الماء؟! تأكدي من خزان البناية وتوصيلات الأنابيب، لماذا الكلّ لديهم ماء ما عداكِ!"

 

قاطعتهن لمياء، معلمة اللغة العربية الفائزة بجائزة العام في حفظ الشعر، لتخفف شحنات التوتر التي تكثفت في ما بينَ الشد والجذب: "انصتنَ هناك قصة تذكرتها." قلتُ لها وأنا ساخطةٌ على أماني، وممتقع وجهي من حديثِ مريم: "هاتِ ما عندكِ يا أختَ العرب!"

 

في سالف العصر والأوان، كانت هناك أعرابية تُسمى أنهار، تعيش في خيمةٍ مع أهلها بالقرب من واحة غناء. جاء رجلٌ أشعثٌ أغبر، حطّ رحاله بالقرب منهم فقد أنهكه طول السفر، وأراد أن يستريح لبضع سويعات. توجه للخيمة طلباً للماء، فغرفت له أنهار من القِربَة، وانسكب بعض مما فيها على ثيابه فشرب الماء وقال منشداً: (أنَا الغَريقُ فَما خَوْفي منَ البَلَلِ) فأنشدتْ الأعرابية القصيدة بأكملها من بدايتها:  

 

أجابَ دَمعي وما الدّاعي سوَى طَلَلِ... دَعَا فَلَبّاهُ قَبلَ الرَّكبِ وَالإبِلِ

 

 حتى وصلت لمطلع البيت:

 

وَالهَجْرُ أقْتَلُ لي مِمّا أُراقِبُهُ... أنَا الغَريقُ فَما خَوْفي منَ البَلَلِ

 

وأكملتْ باقي القصيدة عن ظهرِ قلب فانبهرَ المسافر بسرعة بداهتها وحافظتها القوية، وقال: للهِ درّك أيتها الأعرابية! أجَدتِ. وسألها بخبث: من قائل هذا الشعر؟ فقالت: أنتَ! أنتَ المتنبي! كانت الأعرابية شاعرة ذات فراسة وتقدم لخطبتها الكثير من الشعراء ثم...

 

سمعتُ صوتَ قرقعةٌ خافتةٌ في جوفِ القدر الذي ابقيته في داخل الحوض، تسللتْ قطيرات من فوهة الصنوبر، تستطيعُ أذنايّ المرهفتان أن تُمَيِزَا بدقةٍ هذا اللحن الفرائِحّي لسمفونية اللقاء من بين عشرات الألحان. عدوتُ للمطبخ مسرعةً. جاءتْ المياه على بكرة أبيها فعبأتُ ثلاثُ قوارير بصمت وأضفت لها بعض قطرات من ماء زمزم. حملتها بين ذراعي كأُمٍ تهدهدُ رضيعها، وتنظرُ إلى عينيه اللتان تبرُقَان بَسِّرِ الحياة.  

 

نجاة الشافعي

 

٣ يناير ٢٠٢٣ م