ملكة القبعات

!ـ وهل للقبعات ملكة

.سألتها وأنا أبتسم بخبث، وتراءت لي ملكة تعتمر قبعة خضراء فاقعة اللون تشبه قبعة ساحر تُخرج منها الأرانب والحيات

:اجابتني ذات الخمسة أعوام بثقة أكبر من حجمها الضئيل وبنبرة متحدية 

:أنا ملكة القبعات! وأشارت لأربع قبعات شتوية توجت بها رأسها الصغيرة الواحدة فوق الأخرى وهي تجري وتضحك وتصيح 

!ـ ملكة القبعات.. ملكة القبعات.. ملكة القبعات 

ركض قطيع الأخوات خلفها يحاولون انتزاعهم منها ولا يفلحون لأنها نحيفة القامة سريعة العدو كنغر يقفز عاليا على قوائمه الخلفية ويحمل أطفاله في جعبته ولا يفرط بهم أبدا. تعثرتْ بدمية مكسورة الذراعين، وقعتْ ونهبتْ أختها واحدة منها فهاجمتها كصقر كاسر، سحبتها من بين يديها بشراسة بعد أن عضتها فبان أثر أنيابها علامة منقوشة في جلد يدها. انهمرت دموعها وشهقت شهقة عالية حتى كادت أن تطلع روحها من شده الألم; لكن لم تبالي بها الملكة المتوجة بالقبعات الصوفية

:ارتدت القبعة الرابعة التي انسدلت على أذنيها وهي تصرخ ضاحكة بفخر  

.. لا أسمع.. ملكة القبعات.. ملكة القبعات-

قصة ملكة القبعات

رسم وكتابة: نجاة الشافعي

الباب

تلجلج لسانها بالدعاء المتواصل

ترقد أمامها على السرير الأبيض

يدخلونها

يقع قلبها من مكانه

تحجرت دموعها في مآقيها

خرت على الأرض

هل ستراها مجددا

مرت الثواني كسكاكين تنحر أوردتها واحدا واحدا

تتنفس بصعوبة

تلهث كأن جني عملاق يطاردها في منتصف الليل في لجة حلم سرمدي

يدق قلبها كطبل مشدود

تتكسر آهاتها في ضلوعها

قامت بصعوبة

مشت مترنحة لتلقي بنفسها على أقرب كرسي بجوار الباب

.تراقب الداخلين والخارجين

نظرت للباب

رمادي واسع ذو دفتين

باب ذكي يُفتح بمسح البطاقة فقط

عندما يتعرف على هوية من سيدخله

ويحجب الرؤية عن الآخرين

تراصوا على الكراسي المجاورة

كلهم ينتظرون مثلها

بعضهم يتأفأف

أو يتفحص هاتفه

بعضهم صامت كالجليد

آخرون أصابهم القلق

صاروا يجولون في دوائر مفرغة داخل الممر الضيق

انتصف النهار

اشتدت الحرارة واشتد قلقها

بدأ صداع شديد يطرق رأسها

دماغها يتصدع وروحها تتألم

ما أشد لحظات الإنتظار

كأنها ولوج جسد

أو خروج جسد

من ثقب مفتاح الباب

نهضت من مكانها

الأبواب كلها موصدة في وجهها

إلا بابا واحدا

ستطرقه

وتنتظر من يجيبها

توجهت لغرفة المسجد في المستشفى

أثناء سيرها

خرج السرير فارغا

كتابة نجاة الشافعي

٢٢ مايو ٢٠٢٢م

قِصَصُ حَسَنْ

 

حَسَن

ذو الابتسامة العريضة

مبتهجٌ طوال الوقت

لا يتجهم وجهه البريء إلا فيما ندر.



حسن يجيد الإنشاد

يترنم بلكنة خاصة به

عندما تعتاد على لغته تفهمها

وتدخل عالمه

ويدخل قلبك.



حسنٌ

متعدد الهوايات

يرسم بالألوان الصاخبة

يتقمص دور الأم عندما يلعب بالدمى

يصعد الدراجة ذات الثلاث عجلات

يقهقه عندما يسقط منها

يلاعب الطيور

ويفتح لها الأقفاص.



حسنٌ

يبادر بمصافحتك بشوق

يعانقك بحرارة

يحنو على الصغير

يجالس الكبير

لم يكن طفلا

بل رجلا بملامح طفل.



حسن

يبهرك بحديثه الشيق

سرد بسيط العبارات

يتهدج صوته بحماسة

يتنقل كنحلة من حادثة لأخرى

أحداث هو بطلها دائما.

 

حسن

خرج يوما ولم يعد!



حسن

افتقدنا قصصك العذبة

وضحكاتك الرنانة

كنت تحيي جلساتنا الميتة

تحرك أحاسيسنا الراكدة.



عُدْ يا حسن

ذواتنا ناقصة بدونك

ننتظرك أن تجيء مثقلا بالمطر

كلنا شوق إليك؟



حسن يُمَثِّل فرد من فئة ذوي الهمم



كتابة ورسم: نجاة الشافعي

قصة شعرة عمتي

.رأتْ شعرة طويلة منغرزة في ياقة قميصي. لم أنتبه لها إلا عندما استلّت الشعرة المجعدة السوداء. أخيرا قبضتْ علي متلبسا بالجرم المشهود

 

نظرتْ لي شزرا وعيناها يتطاير منهما الشرر. أعرفُ سلفا ماذا ستقول وبماذا ستتهمني والمعركة حامية الوطيس التي ستدور رحاها والصراخ الذي سيقضّ سكون الليل

 

بادرتُ بالاعتراف على غير عادتي: نعم هذه شعرة امرأة! شعرة من شعراتها. كنتُ عند عمتي التي قاطعها أبي ولم أزرها إلا عندما عرفت إنها على فراش المرض

 

انقلب حالها ثلاثمئة وستين درجة. تحولت فجأة من غول شرس إلى حمل وديع. قالت بتأثر: ما أجمل صلة الرحم! حسنا فعلت! ضحكت في داخلي و هنأت نفسي لأني أصبحت بارعا في الكذب. نمنا هانئين قريري العين

 

!عندما استيقظنا بادرتني بالسؤال: الشعرة سوداء فاحمة! كم عمر عمتك

سارة رسامة البورتريه

عندما نقرأ معالم الوجه الأنثوي وتفاصيله الدقيقة ثم نرسُمه بدقة فينبض بالحياة نشعر بمتعة رهيبة تضاهي القفز بمظلة من طائرة تحلق خارج الغلاف الجوي على حافة الفضاء كقفزة (فيلكس) في دعاية (الرد بول) الشهيرة، (الشراب الذي يعطيكِ جوانح) أي يخلق لك أجنحة تحلق فيها في الأعالي.

Read More

أمي والكتاب

أمي في السبعينات من عمرها المبارك. تمكثُ في البيت طوال الوقت. تذهبُ فقط مرة واحدة في الشهر للمستشفى إن احتاجت ذلك. ننقلها على كرسي متحرك أنا وأخي والخادمة

كنت أجلس قبالتها على أريكة طويلة مغطاة بملائة صوفية أقرأ كتابا. غرقتُ في صفحاته ونسيت وجودها بالقرب مني. ايقظتني بصوت عالٍ لأنها لا تسمع جيدا فترفع صوتها عندما تتحدث. قالت بحسرة وهي تتنهد

أشعر بالملل الشديد! لم يزرني أحد اليوم! الدقائق طويلة كنجوم في السماء أعدها ولا تنتهي

ثم باغتتني بسؤال لم تسأله من قبل: ألا تشعرين بالملل! أنت لا تخرجين من المنزل مثلي! تحبسين نفسك في غرفتك طول الوقت

Read More

معلمات تافهات

هن مربيات صانعات الأجيال. تخرجت على أيديهن الطبيبة والممرضة والمهندسة والرسامة والكاتبة والمعلمة وربة المنزل، يعلمن النشء بكل جد وتفان وإخلاص. يخلقن أجيالا مبدعة تتطلع نحو السمو والعلم والازدهار. مجموعة من خمس معلمات يسكن نفس الحي الذي تقع فيه المَدرسة. لكن المديرة تسميهن: "المعلمات التافهات" وشاعت هذه التسمية بين الجميع

Read More

اسمها زائدة


اسكتتها أمها عن الكلام: زائدة كفي عن الثرثرة وقتل الوقت! اقرأي القصة التي اشتريتها لك قبل شهر ولم تنتهي منها. أمسكتْ بالكتاب وتظاهرتْ بالقراءة. في غفلة من والدتها وضعت الجوال في وسط الكتاب. بدأت رحلتها من صفحة إلى صفحة في العالم الافتراضي.

Read More

الكاتبة الشبح

لندن بريطانيا ٢٠١٦ م                          تصوير: نجاة الشافعي

لندن بريطانيا ٢٠١٦ م تصوير: نجاة الشافعي

الكاتبة الشبح 

هناك آذان تسمعك وعيون ترقُب كل حركة تقوم بها. وآخرون لا تعلمهم يعّدون دقات قلبك. يحصون أنفاسك وآهاتك وهمساتك وضحكاتك. موجودون في كل مكان: في الطريق، في عملك، في الحديقة، في محل البقالة، في بيتك، في السوشيال ميديا. مزروعة وسائل تنصتهم عليك بطريقة ذكية مع أهلك وأصدقائك وزملائك وحتى عندما تضطجع في فراشك يعلمون بذلك. أنتَ لست وحدكَ كما تحسب، فأعمِل بصرك واشحذ بصيرتك لتكتشف ما يحيط بك من مكائد ومؤامرات

 

نشرتها في الفيسبوك في المساء وفي التويتر في الصباح لتحذر الناس السذج الذين يفصحون عن مكنوناتهم وتفاصيل حياتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. يضعون صورهم الشخصية وصور عوائلهم ويستعرضون كافة أنشطتهم: ما أكلوه، ما شربوه، ما ابتاعوه، أين ذهبوا، من قابلوا، وماذا فعلوا. هؤلاء مغرر بهم يروجون لنمط استهلاكي مادي يعزز ثقافة البوح ومشاركة حياتهم مع الآخرين. مما أدى إلى أن تسلق هرم الشهرة كل ناعق. عليها أن ترشدهم فضحايا العالم الافتراضي سهلّوا المهمة للعيون المتلصصة وغدا كل واحد منهم دون كيشوت الفارس النبيل يحسب أنه قد صرع الفرسان الأشاوس بشجاعته وبراعته وتفوقه بينما كانت حربه مع الطواحين الهوائية. حصدت حوالي مائة تعليق بين المؤيد والمعارض وقلوب ووجوه مبتسمة وغاضبة  

المؤلف الشبح مثل دون كيشوت متضخم الأنا، قصير نظر لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، غارق في الخيال. الشبح يعتقد بأنه لوى عنق النجاح بأن كتب سيرة شخصية وأحيانا أعمالا أدبية لشخص مشهور في المجتمع. يحسب نفسه يحسن صنعا بينما هو مجرد سراب. يؤجر قلمه لغيره فيظهر ذلك الآخر بصورة جذابة شيقة منمقة بينما المؤلف الحقيقي يدس رأسه بين السطور كنعامة. المؤلف الشبح أُمٌ بديلة تؤجر رحمها لتنبت فيه جنينا لغيرها تضخ فيه عروقه الحياة لمدة تسعة أشهر لكن عندما يكتمل البدر ويمد رأسه للخروج سرعان ما تلتقطه يد امرأة أخرى تُدعى أمه. رغم رواج الكتابة الشبحية مؤخرا في الغرب ثم الشرق ما زالت تعتبرها فن مطور من فنون السرقة الأدبية حيث يوافق المسروق بملأ إرادته على سرقته واغتصاب السارق لكتابته مقابل حفنة من المال

 

هي أيضاً تُصنّف كمؤلفة شبح لأنها تكتب بدون أن تُصرّح باسمها الحقيقي أو تضع صورتها. لا أحد يعرفها على الإطلاق حتى الآن، لكن في حالتها الوضع مقلوب فهي روبن هود الذي يسرق من الأغنياء ليطعم الفقراء. هي بروميثيوس تسرق جذوة النار لتُشعل القنديل الذي ينير دروب القراء بدون مقابل. لم تصرح باسمها في وسائل التواصل الاجتماعي أو في الأوساط الأدبية ولم تضع اسمها الحقيقي على غلاف روايتها التي نُشرت مؤخرا في دار نشر مغمورة. لا أحد حتى يعرف إن كانت امرأة أم ذكرا لأنها اختارت اسما محايدا: سلام والذي يمكن حمله على الجنسين

 

سلامٌ خجولة جدا في حياتها اليومية. تحتفظ بأسرارها الخاصة لنفسها. لا تحب التطفل على الآخرين. عندها صديقة واحدة فقط، جارتها منذ الطفولة والتي تسمح لها بالتجول في حديقتها السرية وولوج عالمها المغلق عن الآخرين. غير اجتماعية ولا تبادر بالحديث مع أي أحد. قد تردّ أحيانا على من يتحدث معها فقط إذا اضطُرت لذلك. بين التهام أي كتاب يقع بين يديها والتلذذ بأصناف الطعام ومشاهدة الأفلام المعادة على التلفاز تقضي وقتها. أدمنت القراءة منذ نعومة أظافرها مما جعلها مختلفة في تفكيرها ولغتها وأحلامها عن أقرانها. لم تكن تستسيغ اللعب معهم بالدمى أو الجري بلا هوادة في الطرقات. كانت ثمرة استوت قبل أوانها وسقطت من الغصن في حضن الحروف.

 

سلامُ تتقيد حرفيا بما يمليه عليها والديها وإخوانها من أوامر ونواهي. تحترم العادات والتقاليد حتى التي ليس لها معنى. لا تحب أن تصطدم بأحد أو تكسر المحظورات. هادئة ومسالمة إلى أبعد الحدود. حتى الحشرات تشفق عليها ولا تؤذيها، فلها حق الحياة كما للإنسان، فالهرم الغذائي يقوم على التجانس بين الكائنات المختلفة وكلنا معا مترابطون في هيكلية واحدة كما يعتقد الشاعر العارف جلال الدين الرومي بوحدة الوجود. تُعيد تدوير الورق والبلاستيك وكل شيء فالبيئة للجميع ويجب المحافظة عليها. تعتقد أن كل إنسان يعتدي على البيئة يجب أن يُعاقب بقسوة لأنه مجرم في حق نفسه والأجيال القادمة. بسبب كسلها وإدمانها على القراءة والكتابة والطعام زاد وزنها حتى كسرت حاجز المئة كيلو وقفزت فوقه بعشرين كيلو فضاقت عليها كل ملابسها. سببت بدانتها لها السكري والضغط واحتكاك المفاصل ووجع الظهر الذي يؤلمها عندما تنام وتجلس لفترة طويلة. كل هذه العوامل: عزلتها، شراهتها في الأكل وبدانتها جعلتها تبدو كأنها في الأربعينات بينما هي أكملت الثلاثين في الشهر الماضي ولما يطرق بابها أي عريس بعد. صاروا ـحتى أهلهاـ يطلقون عليها اسم عانس ليس في وجهها ولكن من وراء ظهرها وأحيانا تسمعهم يهمسون بذلك فيدمي قلبها وتنحدر دموعها كالسيل العام. لذلك قررت ألاّ تخرج من البيت أبدا والتزمت بوعدها حتى هذا اليوم مهما قرّعتها والدتها وأخواتها. عن طريق الكتابة تفرغ شحنات القهر الذي يكتنف حياتها. تشعر بأن الكتابة لها دور كبير في تخفيف رزح الواقع المر عليها.

 

عندما تُمسك بالقلم وتبدأ الكتابة تنطلق ريح صرصر عاتية تُكسّر أغلالها وتحررها من العالم الكئيب الذي قبعت فيه طويلا. تتحدى مكبوتات النفس وقيود المجتمع. ربما هذا ما يسمى في علم النفس التعويض عما يعتمل في نفسها من ضعف وهزيمة أو قد يكون تفريغا للشحنات الانفعالية الغضبية.  قرأت عن الكتابة الهادفة واتجاه الفن لأجل خدمة المجتمع في النزعات الاشتراكية والدينية لكن لم تستطع أن تتماشى مع هذا الاتجاه، وأيضا تكره الاتجاه الذي يستخدم الفن للفن والأدب فقط مُهرِّجا للترفيه والتسلية، أي الفن يصبح استهلاكيا في خدمة الفرد. فالأديب في وجهة نظرها يجب أن يُحلّق في فضاء حر بلا حواجز أو موانع ليعبر عن ذاته ويبدع فنا يخدم البشرية وليس مجتمعه فقط. فالأديب الأناني الذي يفكر فقط في نفسه أو الأديب الذي يتماهى مع القيود أو يجاري المجتمع في خيره وشره وتفاهته وفساده ليس أديبا بل خائنا يستحق بتر أصابعه في مقصلة الأبجدية وإغراق أعماله الأدبية في نهر دجلة كما فعل المغول في بغداد قبل قرون عديدة. تكره أيضا أحكام الناس الظاهرة والباطنة على أي عمل فني. كل يقيّم العمل الفني من منظاره الخاص. الناقد ينقب عن عورات النصوص ليكشفها للعلن والأجدر به أن يسترها بورق التوت. المثقف يرى العمل الأدبي مسطحا فارغ المضمون ليست به أبعاد تاريخية أو ثقافية أو جدلية، الليبرالي يرى العمل متزمتا ومتقوقعا بينما المتزمت يراه متحررا ومتغربا. أما المتلقي العادي فهو الحمامة التي تقلد مشية الطاووس. يسمع للفئات الأخرى فموجة ترفع النص فوق السحاب وموجة تنزله لقاع البئر في أسفل السافلين وهو يسايرهم.

 

كلما افتقدت المتعة والبهجة في حياتها، انغمست في الفضاء الافتراضي والقصصي أكثر من السابق. في عالمها لها زوج يحبها وأطفال يشبهون أباهم لكنهم هادئين مثقفين مثلها. عندها بيت كبير تحوط به حديقة غناء يقع على شاطئ البحر. صارت روائية مشهورة يشاد لها بالبنان كأحلام مستغانمي. لا تعيش حياة رتيبة كباقي النساء في حيّها بل تسافر كثيرا. تحضر مؤتمرات وندوات. يستضيفونها في برامج إعلامية وحوارية. حولوا رواياتها إلى أفلام ومسلسلات ومسرحيات تحضر تصويرها. تذهب للنادي الرياضي وتمارس الرياضة. رشيقة فارعة الطول وأنيقة ترتدي العباءات الطاووسية وتضع الحلي والألماس والمجوهرات. لديها الخدم والحشم والسيارات الفارهة وما لذ وطاب. هذا ليس بخيال أو تهيؤات بل يتحدثون إليها وحدها وتجيبهم وتحاورهم. يرونها وتراهم. عقل جميل مثل عقلها لا يمكنه أن يزيف لها الحقيقة.

 

شاهدت مرة فيلما بالإنجليزية أرعبها بشدة عن مؤلف شبح. لا تتذكر التفاصيل بوضوح بينما نهايته حُفرت في ذاكرتها خندقا للأبد. تدور أحداث الفيلم عن مؤلف شبح يكتب مذكرات لشخصية بريطانية مشهورة والذي استقر في أمريكا مع زوجته. عندما أكتشف الشبح أسرارا خطيرة تتعلق بهذا الرجل، صدمته سيارة عندما ذهب ليسلم الكتاب في لندن للناشر. كان المؤلف يحتضن كتابه كطفل فسقط في وسط الشارع بدون حراك والمطر يبلل أوراقه المتطايرة في الشارع. اختفى الشبح من الحياة كم كان مُسدل عليه الستار خلف جدران الكلمات من قبل. تتمنى ألا تنتهي مثله عندما تُعرف في يوم من الأيام شخصيتها الحقيقة فَتُحاك لها مؤامرة. هي ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة حتى النخاع فالأحداث لا تقع بالصدفة بل ورائها مدبر وفاعل وشاهد وشهيد

 

سلامٌ ليست شخصية واحدة فقط إنما هي حرباء يتغير مظهرها حسب الوسط الذي تعيش فيه. في الانستغرام هي "هيفاء" فتاة مراهقة مدللة حسابها مليء بصور للطعام الذي تأكله أو تبتاعه من سيدات الانستغرام. تصوره بعد أن تصفه في أطباق فاخرة بطريقة جذابة وتختار لصورها فلتر مناسب يضفي رونقا بالخصوص للصور الباهتة ويبرز جمالية التفاصيل. هيفاء مغرمة بتصوير أظافرها بطلاء مختلف كل يوم. هيفاء تصور أحذيتها وحقائبها وعباءاتها الملونة والمطرزة بالدانتيلا. سلامٌ هي ناشط اجتماعي اسمه "ماهر الزين" في التويتر. ماهر يحث على القراءة والتفكير الإيجابي. يرصع ماهر صفحته بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة.  يزينها أيضا بالحكم والأمثال والعبارات المحفزة. أما في الفيسبوك فهي مفكرة رصينة "نور الحقيقة". تتابع نور الحقيقة أخبار الأدب والأدباء وتناقش المثقفين والقاصين وتنشر ما تكتبه تحت اسم نور الحقيقة. أما في رواياتها فتتعدد شخصياتها حسب الحبكة القصصية ومتطلبات العمل الدرامي. سلامٌ ديناميكية تمل السكون والبلادة وتتغير مواصفاتها الشخصية حسب العمل الفني. تتحدى ذاتها وقدرتها الكتابية فتتحول إلى شخصية جادة أو هزلية أو مخلصة أو خائنة أو جبانة أو جريئة أو من طبقة غنية أو معدمة. قد تكون طفلا أو شابة أو رجلا ناضجا أو امرأة عجوزا أو مراهق غر. تشعر أحيانا بأنه قد يكون لديها انفصام في الشخصية لتعدد الشخصيات التي تتقمصها في كتاباتها، بينما هي في الواقع نقيض ما هي عليه في القصص. عند التأليف تسقط عنها الأقنعة وينطلق المارد من القمقم وتسرد شهرزاد الحكايات حتى الصباح. هل الكتاب الآخرين متصالحين مع أنفسهم أم مثلها يعيشون انفصاما وتشظيات في شخصياتهم ليبدعوا أدبا رائعا؟

 

في يوم صيفي حار استيقظت من النوم تشعر بلهب حارق يجتاح جسدها وتصببتْ عرقا حتى ابتلّ فراشها. كان حلم خانق رأت فيه خفافيش باضوا في عشها ثعابين انتزعت جلد يديها. فتحت عينيها. أصابها هلع شديد حين شعرت بأن هناك من يراقبها من النافذة وآخر يتلصص عليها من ثقب المفتاح. أغلقت الستارة جيدا وأحكمت قفل الباب ووضعت قطعة قماش في سِمِّ القفل. ثم أغلقت جوالها لأنهم أيضا يمكنهم أن يتنصتون على أفكارها من خلاله فيعرفون مكان زوجها وابنائها وبيتها. اشتد قلقها فحطمت الجوال والذي حتى وإن كان مغلقا سوف يبث موجات تقودهم إلى غرفتها. تناولت كراساتها وأوراقها ومزقتها إربا إربا لكيلا ينظرون لما خطته من شخصيات متمردة على القيم والأعراف والمجتمع. بالتدريج تعالت الأصوات: إنها هنا. أهجموا على الغرفة. اكسروا الباب. اقبضوا عليها. سوف نحاكمها الآن. وسمعت وقع أقدام تقترب وأيدي تطرق الباب بإلحاح. ثم صوت أمها: سعاد حبيبتي أخرجي حان وقت العشاء. تواصل الطرق. لقد ابتزوا والدتها لتنضم إليهم في مكيدتهم وتخبرهم اسمها الحقيقي. سوف تغمض عينيها ثانية حتى يغادروا منزلها. ربما هي ما زالت في لُجة قصة من قصصها أو ما زالت تشاهد فيلم المؤلف الشبح. تساءلت قبل أن تغرق في عالم النوم وشبح نيكل كيدمان ترتدي وشاحا أسودا وتحتضن طفليها عالق بذاكرتها، من هو الآخر؟ هم أم هي؟ 

كتابة وتصوير: نجاة الشافعي

٢٣ مايو ٢٠١٩

 

عيدالموت#

قاربت الساعة السادسة مساء. انتهت من طبخ العشاء. أعدت أبريق شاي بالنعناع ودله قهوة عربية بالهيل والزعفران، مشروباه المفضلان. يحب أيضا المكسرات المشكلة وضعتها في أطباق صغيرة بلورية. يتراقص نور الشموع التي أشعلتها لتضفي للصالة دفئا ورومانسية بفعل الهواء البارد المتسلل من النافذة . رائحة كعكة الشوكولاتة انتشرت في فضاء المطبخ. أخرجتها من الفرن حارة شهية. أحتضنها صحن مزخرف اشترته لهذه المناسبة الخاصة، عيد ميلاده الخمسين. طلتها بكريمة طازجة وزينتها بحبات الكرز. صفت خمسة شموع على شكل قلوب حمراء فوق وجهها الأملس. قبل أيام اشترت له هدية كاميرا فاخرة ماركة كانون وعدسات احترافية كلفتها مرتب شهر كامل. لفتها في ورق ذهبي مطرز بالنجوم. يدمن على تصوير الطبيعة وكاميرته قديمة فارتأت أن تبتاع له هذه الكاميرا. أشعلت البخور متنقلة به كفراشة من زاوية لزاوية تنشر الرائحة الطيبة في كل أرجاء المنزل وتتمتم بالصلوات والمعوذات. ثم ألقت نظرة على أناقتها في المرآة. عدلت من تسريحتها ودست خصلات الشعر البيضاء خلف أذنيها. لبست قرطين ذهبيين أهداهما لها في عيد زواجهما الأول ثم توقفا عن الاحتفال به لأنه يقول لا داعي للمبالغة والتصنع فكل أيامنا أعياد. هو نادرا ما يتذكر عيد ميلادها لكنها تتذكر عيد ميلاده كل عام وتحتفل به معه. وضعت اللمسات الأخيرة: كحل أسود وبودرة خدود خوخيه اللون وأحمر شفاه صاخب. ارتدت الكعب العالي واغلقت الأنوار لتفاجئه عند دخوله المنزل

تصوير: نجاة الشافعيلندن صيف ٢٠١٦ م

تصوير: نجاة الشافعي

لندن صيف ٢٠١٦ م


تأخر الوقت كثيرا ولم يأتي. اتصلت به لكن هاتفه النقال كان مغلقا فأصابها القلق. هل به شيء؟ هل أصابه حادث أو مكروه لا سمح الله. وضعت يدها على قلبها وهي خائفة فهو عادة يعود للمنزل في حدود السادسة. وبعد ساعات كئيبة من الانتظار كانت فيها أعصابها مشدودة كأوتار الكمان رن الجوال بنغمة خاصة به: ليلة من ليالي العمر. قال بصوت هادئ: مساء الخير. لن أتمكن من الحضور. لدي عمل كثير! سأتأخر في المكتب. تعشي بدوني. سأتعشى مع الزملاء، وبفعل وقع المفاجأة سكتت على مضض

خلعت الكعب العالي. ألقت بنفسها على الأريكة وآمالها العريضة تحولت إلى سراب بعد عناء يوم طويل من الاستعدادات المرهقة. بكت طويلا فامتزج الأسود والأحمر أسفل عينيها وعلى وجنتيها. خالجها شعور أنه سيحتفل بعيد ميلاده في مكان آخر. قطعت الشموع أربا. طعنت الكعكة بسكينة حادة عدة مرات فتناثر الكرز وسالت دمائه ممتزجا بالكريمة البيضاء واشلاء الكعكة البنية في منظر منفّر. صورتها بالكاميرا ووضعت الصورة على الانستغرام مع هاشتاغ #عيدالموت. علق على الصورة في اليوم التالي: هههههههه وابتسامة وجه يبكي من شدة الضحك

نص: نجاة الشافعي

٢٢ مايو ٢٠١٩ م