جلطة جدتي

جلطة جدتي

استاءت بشدة من جلوسها لوقت طويل في الكرسي المتحرك في انتظار الطبيب وقدميها معلقتين على دواستين مرتفعتين ملتصقتان بالكرسي، فجمد الدم في إحدى قدميها وبدأ سرب من النمل يدبّ في أعصابها فقامت تهزها بشدة لعل الدماء المتدفقة تُغرق هذا السرب.


شعرت بالإرهاق والجوع بعد أن قضوا جُلّ الصباح يتنقلون من عيادة لأخرى. سألت في رأسها ما الساعة؟ لكن منذ الجلطة التي أغلقت بعض الشرايين في دماغها انسدت أبواب الأبجدية في وجهها وصار من الصعب استحضار المفردات المتسقة مع المعاني التي تستذكرها في رأسها ثم استنطاق ما تريده من حروف من حنجرتها لتخرج همهمة وتمتمة غير مفهومة من بين شفتيها وأحيانا عبارات لا تمت بصِلة لما ترمي إليه.

 
قالت بعبارات مبتورة مبعثرة معوجة مصحوبة بحشرجة:


كي كا كا ما ما سا سا سو سو سيع سع سيع سع ما ما مي مي مي...

وكأنها أدركت ما تريده فأجابتها وهي تصطنع اللطافة والهدوء لئلا تضايق المنتظرين في القاعة المكتظة فيلومونها في قرارة أنفسهم على ردها الفظّ. رفعت صوتها لتسمعها جيدا وتأنت في النطق واستخدمت عبارات بسيطة وكررت الكلمات لتستوعبها بوضوح:

لن         لن                     لن        

نتأخر     نتأخر                 نتأخر

انتظري   انتظري              انتظري

اصبري   اصبري             اصبري

ناولتها برقة زائدة سندويشة لتُطبق شفاهها وحبات دواء سبعة تتناولها في كل صباح وقنينة ماء صغيرة فألهاها تناول الطعام والشراب قليلا، وسرعان ما دخلت في حالة من الاستياء مجددا بعد ما التهمت السندويشة بسرعة بسبب الجوع الشديد فتناثر فتات الخبز على عباءتها وبين قدميها على الأرض. ثم أخرجت موزة وأعطتها إياها فازدردتها متعجلة في بضع لقيمات.  

هذه العبارة (لن      لن         لن         نتأخر     نتأخر     نتأخر) سمعتها اليوم عشرات المرات وتسبب لها ضيقا كلما تكررت على مسامعها فتمتم متذمرة بينها وبين نفسها بكلام متشنج وبصوت عال وغير واضح ورغم علو صوتها وغرابة ما تتلفظ به تجنب قلة من المرضى المهذبين النظر إليها لئلا يتسببوا لها بالإحراج.  

أخبروها منذ الليلة الماضية أنها ستذهب لموعد في المستشفى وعليها الاستيقاظ باكرا جدا. استاءت من ذلك وهزت رأسها ممتعضة، حتى إن لم توافق سيأخذونها غصبا للمستشفى ورغما عن أنفها لمواعيدها خوفا من أن تسوء حالتها ويتطلب ذلك المزيد من الرعاية من ناحية والتكاليف الجسدية والمادية المُرهقة لهم من جانب آخر.


أيقظوها منذ الصباح الباكر وصففوا شعرها الأبيض المجعد، والبسوها ملابسا مكوية وعباءة سوداء حريرية لامعة ووضعوها في مقعد السيارة الخلفي وهي تئن وتلهث وترتجف أطرافها. ثم أنزلوها عند باب المستشفى وأجلسوها في الكرسي المتحرك، ودفعوها في الممرات الضيقة المليئة بالناس ورائحة العرق مختلطة بالمنظفات الرخيصة تزكم الأنوف.

منذ عمليتها التي سببت لها الجلطة في بقعة صغيرة بحجم النملة في الفص الأيسر من دماغها صارت عديمة الثقة بالأطباء وبدل أن تقول الدكتور صارت تقول: ث ث ث و و و و ر ررررررر!! بحنقّ شديد وتكررها كلما تحدثوا عن المستشفى ومواعيدها والأطباء والدواء. عندما سمِعوها خوفّوها بأنها لو قالت ذلك أمام الملأ في المستشفى فستعتبر إهانة قد تتسبب في عقابها وسجنها وتسديد غرامة مالية كبيرة لا يمتلكون خمسها فابتلعت لسانها وحبست خيبة أملها في صدرها لئلا يكتسحها غضبهم فيحرمونها من الحلويات اللذيذة التي يكافئونها بها عندما تسمع كلامهم.

سحبت قشرة الموزة من بين أصابعها المتشنجة ووضعتها في سلة القمامة. وبينما هم ينتظرون جاء طفل ممسكا بيد الخادمة وصار يحوم في المكان يتسلق الكراسي الفارغة ثم يهبط منها ويضحك بصوت عال. ثم بدأ يحملق فيها كأنه أكتشف أنها موجودة وليست تمثالا.  

اقترب ودنا منها. أمسك بيده الصغيرة الغضة الناعمة يدها الجافة اليابسة المتغضنة برقة بالغة. نظر لها ببراءة وتحدث معها بلغة طفولية: "ماما ماما ماما ماما ج دد ه ج دده جده!" ربما يحسب إنها جدته.

أبعدته أمه عنها لئلا يضايقها وهي لا تعلم بمدى سعادتها أن الطفل الصغير أول من تحدث إليها بلطف حقيقي في هذا اليوم المر ثم ابتسم لها ابتسامة عريضة وصعد عربته تدفعه الخادمة وأمه تسير أمامهما وظل يدير رأسه للخلف وينظر لها بحنان حتى ابتعد عنها.

صرخت عندما غاب عن ناظريها فجأة بصوت مدو لفت انتباه الجميع فحدقوا فيهم شزرا: 

ووووووو للللل ددددددد

ووووااااااا
تتععاالل
تتتاااال تتتت
تاعل تاعل تاعل!

كتابة وتصوير

نجاة الشافعي

الباب

تلجلج لسانها بالدعاء المتواصل

ترقد أمامها على السرير الأبيض

يدخلونها

يقع قلبها من مكانه

تحجرت دموعها في مآقيها

خرت على الأرض

هل ستراها مجددا

مرت الثواني كسكاكين تنحر أوردتها واحدا واحدا

تتنفس بصعوبة

تلهث كأن جني عملاق يطاردها في منتصف الليل في لجة حلم سرمدي

يدق قلبها كطبل مشدود

تتكسر آهاتها في ضلوعها

قامت بصعوبة

مشت مترنحة لتلقي بنفسها على أقرب كرسي بجوار الباب

.تراقب الداخلين والخارجين

نظرت للباب

رمادي واسع ذو دفتين

باب ذكي يُفتح بمسح البطاقة فقط

عندما يتعرف على هوية من سيدخله

ويحجب الرؤية عن الآخرين

تراصوا على الكراسي المجاورة

كلهم ينتظرون مثلها

بعضهم يتأفأف

أو يتفحص هاتفه

بعضهم صامت كالجليد

آخرون أصابهم القلق

صاروا يجولون في دوائر مفرغة داخل الممر الضيق

انتصف النهار

اشتدت الحرارة واشتد قلقها

بدأ صداع شديد يطرق رأسها

دماغها يتصدع وروحها تتألم

ما أشد لحظات الإنتظار

كأنها ولوج جسد

أو خروج جسد

من ثقب مفتاح الباب

نهضت من مكانها

الأبواب كلها موصدة في وجهها

إلا بابا واحدا

ستطرقه

وتنتظر من يجيبها

توجهت لغرفة المسجد في المستشفى

أثناء سيرها

خرج السرير فارغا

كتابة نجاة الشافعي

٢٢ مايو ٢٠٢٢م