الثور


استاءتْ جدتي من جلوسها في قاعة الانتظار لمدة طويلة، وقدماها محنطتان فوق دواستين ملتصقتين بالكرسي المتحرك. في رأسها قد تسارع الزمن في دورانه فغدت السنين أياماً، والأيام ساعات، والساعات دقائق. تجمدّت إحدى قدميها، وبدأ سِرْبٌ من النمل يدبّ في أعصابها. هزّتها بشدة لتتدفق الدماء فتُغرِق هذا الجيش المتحرك.

 

أصابت جدتي جلطة في دماغها عقب عملية فتح الشريان الأورطي المنسّد في قلبها الهرم. وبعد الجلطةُ أنعقد لسانها. تحاول جاهدة أن تَستحلِب من ذاكرتها المفردات المتسقة مع المعاني التي تستذكرها في رأسها فلا تنطق إلاّ بأحاجيّ يصعُب فكّها. تتفوه أحياناً بعباراتٍ لا تَمُّت لما تَرمِي إليه بِصِلَّة. كلمة "العسل" الذي تحبه تنقلب إلى "فف..حح..ممم" و"موز" إلى "رر..ااا..زز".

 

تهتاجُ كلما أخبرتها أمي عن مواعيدها. حين تسمع كلمة "دكتور" تتذكر ساخطة عملية القلب التي أدت للجلطة فتكرّر كالممسوسة، وبصوت عالٍ: ثثووووررر!! خوفّناها أنا وأخي بأنه لو سمعها الناس تسمي الطبيب ثوراً ستعتبر بمثابة إهانة قد تتسبب في عقابها ودفع غرامة للتعدي على الطبيب. لجمت لسانها الثقيل ليس خشية من ذلك، بل خشية من أن نحرمها من الشكولاتة التي تعشقها.

 

سألتْ جدتي: كم الساعة؟! لكن همهمتْ وتمتمتْ بكلمات مبتورة: ...سا سااا ساا!!

 

فَهِمتُ ما تريده فأجبتها مُصطَنِعة اللطافة أمام حشد المنتظرين في القاعة المكتظة بالمرضى ومرافقيهم. رفعتُ صوتي قليلاً لتسمعني جيدًا. تأنّيتُ في النطق: ااص ص ب ب رريي! ناولتها برقّة زائدة عن المعتاد سندويشة لبنة، قنينة ماء صغيرة، والدواء. ألهاها تناول الطعام والشراب قليلاً، وسرعان ما دخلت في حالة من الاستياء بعد أن التهمتْ السندويشة بثلاث لقمات دفعة واحدة. ثم أعطيتها موزة فازدردتها متعجلة. سكتتْ تُحدّق في الوجوه، تنصتْ للممرضات بالزيّ الأبيض يذرُعن الدهليز المؤدي لغرف الأطباء ويصُحن بأسماء المرضى.

 

ااص ص ب ب رريي! كررتها عشرات المرات في هذا الصباح الطويل كلما سألتني عن الوقت. صارت تسببُ لها ضيقاً فتلوّح بيديها وتُتمتِم متذمرةً بكلام متشنج غير مفهوم. رغم علو صوتها وغرابة ما تتلفظُ به تجنب قلّةٌ من المرضى المهذبين النظر إليها لئلا يتسببوا لها بالإحراج، وتلاهى البعض الآخر بوضع سماعات في آذانهم تجنباً للإزعاج.

 

أخبرتها أمي منذ الليلة الماضية أنها ستذهب لموعد في المستشفى مع طبيب القلب، وعليها الاستيقاظ باكراً. هزّت رأسها ممتعضة. صرخت عدة مرات: ل لل اااااا. ثثث ووو ررر!!. عادة ترافقها والدتي للمستشفى لكنها كانت مصابة بالأنفلونزا فألقت عليّ المسؤولية كعادتها لأني البنت الكبرى التي تتحمل العبء الأكبر في العائلة.

 

أيقظنا جدتي رغماً عنها قبل صياح الديك. انتشلناها بمعونة الخادمة من سريرها حيث تتمدد كمسطرة متخشبة. صفّفنا شعرها الأبيض المجعد. ألبسناها ملابسَ مكوية، وعباءة حريرية لامعة، وأساور ذهبية. بخرناها بالعود في اهتمام مبالغ فيه بأناقتها. وضعناها في مقعد السيارة الخلفي، تلهث وتئن وترتجف. أنزلناها عند الباب. أجلسناها بصعوبة في الكرسي المتحرك. دفعناها في ممرات تضيق من شدة الزحام، تتصاعد فيها رائحة القهوة العبقة والطعام الشهي ممتزجة بروائح العرق الزنخة والمنظفات الرخيصة.

 

سحبتُ قِشرةَ الموزة من بين أصابعها المتشنجة. غفت لدقائق معدودة، وتصاعد شخيرها. ثم جاء دورها.

 

ادخلتها إلى الطبيب البارع المتخصص في القلب والذي أجرى لها العملية. شعرتُ بالحرج الكبير عندما بدأت ترفع صوتها بانفعال: ثثث وو ووو ررررر!! كدت أن أنهرها: اسكتي!!  فجأة.. أصابني الذهول عندما رأيت صورة معلقة على الجدار خلف الطبيب. حلبة مصارعة يتجمهر فيها حضور غفير يتوسطها ثورٌ يقفز متحدياً مصارع الثيران المُرتعِب منه والرماح مغروسة في ظهره كالأعلام، بينما الدماء تسيل من جسده.

 

نجاة الشافعي

الفأرُ الأسد

الفأر قذر لكن ذكي .. الفأر قارض سريع الحركة.. الفأر سريع الهرب..

 

سماه أحدهم "الفأر" فتطايّر اسمه بين الناس، وذاع صيته: الفأر راح.. الفأر جاء.. الفأر قادم.. الفأر والفأر والفأر.. وهو يهز ذيله، وينفخ صدره، ويقفز فوقاً وتحتاً، يميناً وشمالاً، تارة يختبأ، وتارة يظهر، وتارة ينهب الجبن، ويستمتع بمضغه، وتارة لا يَمَسّه، الفأر يراوغ..

 

الفأر لا يأكل بطريقة الفئران. الفأر شره. يحب البصل والثوم واللحوم، وزيت الزيتون ويعصر الكثير من الليمون، ويقضم قرون الفلفل الحار فيطفئ اللهب بالماء البارد جداً.

 

الفأر يدخن ويدخن ويدخن بشراهة.. ويلقي بأعقاب السجائر.. في المخادع.. تحت الأسرة.. فوق المخدات.. بين الشراشف.. على مساند المقاعد..

 

عندما يعود تَفرُك الفأرة عيناها، تقوم من نومها لتسخّن له العشاء، يغضب منها:

- أنا الفأر!! حتى وإن أتيت متأخراً لا تنامي!

 

وعندما تضع مساحيق التجميل

- يا فأرة! لمن وضعتيها! لم أكن موجوداً! امسحيها!

 

وحين لا تضع المساحيق:

- يا فأرة! سُحنتك كالحة! ضعيها! أنا الفأر! أنا موجود!

 

الفأر ينام بطريقة خاصة، يستلقي على ظهره، ويضع رجلاً على رجل، ويتفرج على (التيك توك) حتى الفجر ويصل شخيره حتى الغابة البعيدة..

 

ذات يوم سقط الأسد في الشبكة.

 

الفأر بطل.. الفأر منقذ!!

 

قرضَ شبكة الأسد لأن الفأر ماهر وأسنانه حادة لاسيما قواطعه وزئير الأسد أوجع رأسه؛ لكن الأسد ناكر الجميل عندما تحرر من الأسر جاع جوعاً شديداً فالتهمه بِدْءًا برأسه ولم يدع سوى ذيله.

 

تندر أهلّ الحي على الأسد واسموه فأراً، وفي البئر رأى له ذيلين يهشّ بهما الذباب، وتقلص حجمه حتى دخل في جحر ضَبّ.

 

نجاة الشافعي

٦ / ٦/ ٢٠٢٣ م

 

ملاحظه: أود التنويه إن الموقع لا يتوافق مع أدوات الترقيم العربية 

 

رحلة عابرة للتذوق

رحلة عابرة للتذوق

تحسستُ جلدها الأملس، ضغطتُ عليها برقة فأصدرت آهة خافتة تخطِبُ ودّي فاستجبتُ لإغوائها، وأبقيتها ملتصقة بي طوال رحلتي والتي استغرقت حوالي الساعة.

قضمتُ لقمة من الكيكة الهشة التي سريعاً ما ذابت في حلقي. استمتعتُ بمضغها، وأنا أحتسي الشاي في كوب ورقي، ليته كان من زجاج بلوري شفاف لأثمل بمراقبة مكعبي السكر يتعانقان ثم يذوبان شيئاً فشيئاً في أحضان المياه الحارة، وقطرات الشاي الساحرة تتراقص طرباً في حلقات صوفية بديعة في داخل الكأس.

من المؤسف إن كل شيء تقلص على متن هذه الخطوط، حجم المقاعد، عدد الحقائب ووزنها، وحتى الوجبات أصابتها النحافة ماعدا سعر التذاكر الذي لم تصبه إلا الشراهة؛ لكن لحسن الحظ ظلّ طعم الكيك لذيذاً؛ ليس بالحلو الذي يصعقك بحلاوته فيستحيل حامضاً في فمك بعد أن تمضغه، وليس فاقداً للسكر فلا تطيق بلعه. ما زالتْ –لله الحمد— مخبوزاتهم الفاتنة الممتشقة القوام تدغدغ حليمات التذوق فتنعشني في رحلات العمل المملة.

انتهت المضيفتان الشاهقتي الطول من جمع ما تبقى من هياكل الوجبات. ثمّ صاح الرُبَان بصوت حازم باللغة الإنجليزيةــ بما معناه: اجلسوا أيها المضيفون! سنهبط الآن! وفي تلك الأثناء انتهيتُ من ارتشاف آخر قطرة شاي، وأبقيتها معلقة في فمي لعدة ثواني قبل أن تنزلق دافئة في بلعومي، وعندها قلّبتها بين كفيّ أتأملُ ما نُقِشَ في جسدها من حروف وصور.

لامستْ عجلتا الطائرة الأسمنت الصلب، واهتزّ ذيلها فانتفضنا في مقاعدنا نفضاً، وانقضّ على مسامعنا صرير حاد، صاحبه بكاء طفل رضيع في المقعد الأمامي.

أعلن أحد المضيفين بلهجة مستعجلة: الحمد لله على السلامة! نود تزكيركم بالتزام مقاعدكم حتى تتوقف الطائرة، سعيدون جداً بخدمتكم، نراكم قريباً على متن إحدى طائراتنا.

وأعقبها متحدثاً بالإنجليزية الركيكة:

Sank you for travel wiz us! Please remain in your chair, we are please to serve you, see you soon in one of our flitz!

عندها سارعت بالوقوف فَهَوَتْ من حضني، طقطقتْ عظامها، واستقرتْ على الأرض تسلّم أنفاسها الأخيرة، وأنا أهرول لباب الطائرة جاراً حقيبتي الثقيلة.

كتابة وتصوير: نجاة الشافعي

.تنويه: أدوات الترقيم غير دقيقة بسبب إن الموقع ــ للأسف ــ لا يتوافق تماما مع اللغة العربية

تصوير نجاة الشافعي مدينة الدمام ،٢٠١٤م

فريد عقد فريد


ماذا دهى والده.. مدرّس اللغة العربية.. عندما سَمَّاه: فريد عقد فريد.. كان مَثَار تندّر أقرانه.. لكني سَمْيتُه منذ طفولتنا: فرايدي

(Friday)

لأني أحب الإنجليزية.. وأحب يوم الجمعة.. يوم العطلة.. وأحب صديقي فرايدي جداً جداً

واُدَلِّلُـهُ

(Fred)

دَخَنَّ غليونه، نفضّ قدمه اليسرى، رفعَ بها للأعلى قليلاً ثم أنزلها للأسفل، تهبط وترتفع ثم تهبط، ترسم دائرة رشيقة، كأنّه يَقُودُ دراجة هوائية برِجل واحدة، سحبَ نفساً ملوثاً بالقطران المتفحم ثم نفثَ الدخان في وجهي، عدلّ من جلسته، اتكأ بعضده الأيمن على الأريكة الوثيرة، واصلَ نميمته، وواصلتُ الاستمتاع

قبل أن يبلغ الأربعين؛ كانت حياة فرايدي في مُجمَلِها هادئة.. حياة عادية جداً جداً.. أيّ كائن يأتي من طبقة متوسطة يعيِشُ بطموح طبقته وهمومها.. يجتهِدُ في دراسته.. يجّد في حياته.. يفشل وينجح.. ينجح ويفشل.. يتطلَع أن يصير صنو أبيه.. وزوجته صنو أمه.. تعينّ فرايدي كمعلم لغة عربية في مدينة بعيدة.. يعيش في شقة بالإيجار.. يقود سيارة بالأقساط.. يُحِّبُه طلابه.. يحترِمُه بواب العمارة.. وتزوج من ابنة عمه.. لكن لم يُنجِب

سحبَ نفساً عميقاً آخراً، ونفثَ زفرة دخان حارة في وجهي، قادَ دراجته غدواً ورواحاً، ورواحاً وغدواً، يَحلِبُ ثمالة التبغ من فوهة الغليون، انتابته كحة ارجفت عظيمات قفصه الصدري، ارتعشَ كَمَنْ مَسَّه تيار كهربائي، واستمرت الكلمات تسري بِدَوّي مُخَدّر من حنجرته

كلُ واحدٍ من زملائه يتمنى أن يصبح موجِهاً أو مساعداً للمدير أو يُنقَل لمدرسة قريبة من بيته أو يزيد مرتبه أو يؤسس عملاً تجارياً خاصاً إلا هو.. كان فرايدي على النقيض منهم... قنوع جداً جداً.. يؤدي ما يُناطُ بهِ من مسؤوليات كمعلم، وزوج، وابن، وصديق، وجار على أكمل وجه.. ولا يطمح للكثير.. مسالم إلى أقصى حد.. لا يؤذي بعوضة.. ولا يدوس على ساق نملة

في يوم عيد ميلاد فريد عقد فريد الأربعين.. بداية الشهر الرابع .. وفي بداية كل شهر.. يقدم إعانة بسيطة لرفيقه الحميم.. عنده أربعة أبناء ذكور.. لكن يبدد ماله في تدخين السيجار الكوبي المُقَلّد في الصين.. سَمِعَهُ يتحدث في هاتفه

سأهدِيكِ ما طلبتي.. يا سيدتي.. أحدثُ (آيفون) نزلَ في السوق.. كم فوز عندي! أراكِ الليلة

لم يُجبه فريد عندما دقّ الجرس.. رحلَ حانقاً.. وسيل عارم من العبارات النابية.. انطلق من فِيِهِ.. واقتحم أزيزه طبلة أذنيّ فرايدي

مَنْ يحسب نفسه! هذا الكلب الأجرب.. يتظاهر إنه لا يسمعني أطرقُ الباب.. حمار بلّ أكثر بلادة من حمار.. ما ذنب الحمار أن ننسبه إليه.. تافه مغرور.. فريد عقد فريد عربيد.. أصلع قبيح.. ذو وجه صغير.. وخشم مفلطح كبير.. الغلط مني إني جئت لهذا البخيل المدقع.. مسكينة زوجته.. كيف تتحمل ذفر إبطيه النتنة.. وريحُ فمه المقزّزة؟ !

بدلَّ قدماً بأخرى، هزّ اليمنى بدل اليسرى، أنهكه الحديثُ فبدأ يقود الدراجة الهوائية بلا اتزان، يترنح صاعداً ونازلاً، يضيق نَفَسَه وهو يتسلق المرتفعات، ثم تتسابق أنفاسه وهو يهبطُ المنحنيات، سحبَ نفساً عميقاً من غليونه، شعرتُ به يدوخ ثم يهدأ، ويعود إلى طبيعته، يُكمِلُ لي مغامرات فرايدي

في اليوم التالي ذهبَ إلى مدرسته.. لقنّ الطلاب دروسهم.. قدموا له بطاقات بمناسبة عيد ميلاده.. شكرهم وأقفل راجعاً.. مرّ بالمقهى.. وأمسك بيد العجوز.. يقوده كعادته في كلّ ظهيرة لمنزله.. فابنه يرميه في المقهى حتى يُشفِق عليه أحد ما.. ويعيده للمنزل.. ليُرِيح الزبائن من شخيره المزعج.. وهلوساته التي تضحكهم.. حتى يتطافر الدمع من أعينهم

أيها العنز الشهم! اجلب لي كرسياً أمدُّ عليه رجلي.. أين الشاي! أنت يا حارث الملعون! سرقت من جدّي حصانه.. أين ولدي.. يا ملاعين! عبلة! أين الشاي! حتى الشاي! يا أولاد..! أريد بسكويت! تأخر العشاء

أمسكه بحنان غامر.. مشيا معاً بهدوء.. فجأة نظر العجوز في وجهه مندهشاً

!أين الشاي! أين ابني! لماذا تُمسِكني؟ أتركني! أتركني! أتريد أن تسرق شركاتي! تسرق أموالي! يا حرامي! حرامي! حرامي! امسكوا الملعون

احاطوا به.. مَنْ سيُشَكِّك برواية هَرِمٍ يطلِبُ النجدة! تجمدّ دم فريد عقد فريد في شرايينه.. استجوبوه ولم ينطُق.. تعجبتُ منه.. كيف تَتَأتَى له ألاّ يَرُدّ.. ألاّ تَفتُرَعن ثغرِه لفظة يدافع بها عن نفسه.. لم يَزُمّ شفتيه أو يرتفع حاجباه.. لم تحمرّ وجنتيه ويتعرق جبينه.. لم يلهث أو تتسارع أنفاسه.. لم تَنتَفِخ أوداجُه.. كيف لبشر أن يصير صنماً.. بملامح رجل وكينونة حجر؟! تساءلتُ في سِرّي: هل من الممكن أن نفقد آدميتنا.. أن تنمحق رجولتنا.. أن نتشيء.. أن نتحول - في وقت ما- إلى رِجل كرسي.. ذرة سماد.. صنان إبط.. نباح كلب أو صرصار كافكا

لحسن حظه.. أنا.. أنا صديق فرايدي.. أنا روبنسون كروزو انقذته.. مررتُ بالحشد الغاضب.. انتشلته من بين أيديهم.. وإلاّ لسلموه للشرطة.. هَدَأّتُ من روع العجوز.. وأعدته للمنزل.. لكن فريد الأخرس ظلّ واقفاً لساعات في قارعة الطريق.. والناس محتارون في أمره.. وهو لا يكترث بهم.. كتمثالٌ يستظّل بعمود النور

أضافَ جُرعةً من التبغ الفاخر إلى جوف الغليون. تناولتُ قداحّته الذهبية، وأشعلته له، انفرجت أساريره، تأرجحتْ قدمه لتقود الدراجة، ونفثَ الدخان في وجهي. أنصّتُ له بفضولِ من يسترق النظر من نوافذ الجيران

عاد فرايدي إلى المنزل.. شمّ رائحة الباذنجان المقلي.. سببّت له الغثيان.. طبختْ المسقعة.. وهي تعلم إنه يكرهها.. يمقتُ الباذنجان.. يحرق معدته.. يسبب له تهيجاً في القولون.. أضرب فرايدي عن الطعام.. وأضرب عن الشراب.. وأضرب عن الكلام.. وأمور أخرى.. قاطعها تماماً.. حاولتْ تبرير فعلتها الشنيعة.. أصابني الملل.. تغيير بسيط.. لم يجبها.. صففت شعرها الكستنائي اللامع.. ارتدت أجمل حلة في دولاب الملابس.. رشّت العطر الباريسي الثمين.. ارتدت كعبها العالي.. خرجت لتزور جارتها.. عادت متأخرة.. مبعثرة الشعر.. لعبتْ مع قطتها.. نامتا.. فرايدي جالس في مقعده.. ينظر ببرود لساعة الحائط.. دقتّ مُعلِنَةً انتحار الليل.. 

في اليوم التالي ذهب فرايدي للمدرسة.. استقبله زميله بحفاوة بالغة: والدي مريض جداً جداً.. قدمّتُ على إجازة لإجراء فحوصات طبية له.. اجمع فصلي وفصلك معاً.. وعلّم الطلاب.. وصلّح دفاترهم حتى أعود.. وافق بكل أريحية.. وعندما كان يسافر في عالم (الفيسبوك).. رأى صورته في تايلند برفقتي.. نحتسي الشاي معا.. في غابة بوهيمية ساحرة.. ندخن السيجار الكوبي الفاخر.. نقهقه.. كالقردة..

هل تعاطفت معه؟! إياك! ثم إياك! ثم إياك! كنتُ غبياً مثلك.. أشعر بالشفقة عليه.. لكن بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. نفض عن جلده الرماد.. كالحرباء.. كالعنقاء.. كالغول.. بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. عنفّ والده العجوز الذي صاح به: حرامي.. قام بِرَمْيِهِ في دار العجزة.. ولم يزره أبدا.. بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. حطم هاتف زوجته فوزية.. جزّ شعرها بسكين حادة.. طلقها.. طردها.. سحق قطتها بسيارته.. بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. شتمَّ المعلمين.. وكلّ الإداريين.. والمستخدمين.. ومزقّ بطاقات الطلبة.. وألقى   باستقالته في وجه المدير مزمجراً

!!!!!أنا! أنا فريد عقد فريد!! أنا لَسْتُ معلما

حطّت العنقاء في مخدعي.. تسللَّ على أطراف أصابعه.. اختبأ خلف الستارة.. جنّي يعدّ أنفاسي.. أنا.. أنا الفارس المقنع الذي ساندته.. عندما كان أبوه يصرخ به حرامي.. وهو متخشب كالتمثال.. وأنا.. أنا الخل الوفي.. الذي كنتُ أهدر وقتي الثمين.. أتحدث مع امرأة مسكينة.. أحّل مشاكلها المستعصية مع زوجها اللئيم.. امرأة استأمنتني على أسرارها.. ووأدتها في صحراء الصمت.. امرأة جميلة جداً جداً.. ذات حظ عاثر جداً جداً.. لجأتْ إليّ.. لولا شهامتي لجُنّت.. لولا نُبلِي لهربت من زوجها المتبلد الشعور

حسبته آدمياً.. توسلتُ إليه.. أن يسمح لي.. يَدَعُنِي أدخّن غليوني.. ألتذّ بسحب نفس عميق.. نفخة من القطران الملتهب.. للمرة الأخيرة.. آخر مرة.. حَلِفتُ له.. إنه تشابه أسماء.. هي فائزة.. وليست فوزية زوجته.. لكنه خنقني بحبل غسيل قذر.. جَلَبَه من حديقتي الخلفية.. ربطه حول عنقي بإحكام.. شدّه بتلذذ مازوشيتي.. ظل يبحلق في عينيّ.. بدون أن يرتد إليه طرفه.. أو يفتر ثغره عن كلمة

ألم أقل لك! إنه أنجس من خنزير.. أرعَنُ مِنْ ثور.. أدهى من ثعلبٍ.. كلب بن كلب.. كلبُ شوارعٍ نجس.. أجبنُ من ضبع.. أسرعُ من عقرب.. يلدغ ويفرّ.. أحقر من خنزيرٍ! لن تعرف فريد عقد فريد إلاّ إذا عاشرته مدة طويلة مثلي

نظرَ السجّان إليه، وهو يرفع قدماً يتبعها بأخرى كَمَنْ يصعد سلماً للنجاة، ولا يصل للدرجة الأخيرة

!فريد عقد فريد! زائرٌ لك!! فائزة

 

١ رمضان ١٤٤٤هـ

كتابة ورسم

نجاة الشافعي

 

المظلة الحمراء

!أف! أف! ستتبلل حقيبتي الثمينة وسيتسخ حذائي متى سيتوقف  

كانت السحب تدرّ المطر بغزارة غير مألوفة في مدينة ساحلية تحتضنها الصحراء من ثلاث جهات، وخلفها سار سائقها كظلها يحملُ المظلة يغطيها بها حتى تدخل المبنى ٢١ في الجامعة حيث تتلقى محاضراتها في تمام الساعة الثامنة صباحا، تسيرُ كسلحفاة محنية الرأس تُقلّب صفحات هاتفها المحمول غير مكترثة بالمطر الذي بلل السائق 

انزلقت قدم السائق بسبب برك صغيرة تجمعت أمام المدخل. ارتعشت يده الخمسينية المتغضنة فانحرف عن مسارها، وانقضت على وجهها رشقات من الماء فسال كحلها ولطخ خدودها فبدت كالبهلوان. التفت إليه غاضبة وتأففت. كادت أن توبخه كعادتها لكنها تلفتت حولها فالطالبات يلجن المبنى بمحاذاتها. سحبت المظلة منه بقوة وهو متشبث بها فأصابه طرفها المعدني بجرح غائر في يده. سارت مسرعةً ودخلت الباب بمظلة أحمرّ طرفها خجلاً مما شاهدته من سوء أدب  

امتزج قماش المظلة الأسود بقطرات من دمه الأحمر. تلطخت أصابعها فسارعت بمسحها بمنديلها الرطب المعطر بدون أن يرف لها جفن. نظرت لمرآتها وأصلحت العطب الذي أصاب مكياجها ومسحت كعبي حذائها. سارت بخيلاء تحدث نفسها وهي تبتسم: كم أنا جميلة كالمطر. راقبت المطر من النافذة التي وضعت المظلة النازفة بجوارها لتجف وهي تفكر بعمق أين ستذهب مع رفيقاتها للفطور في هذا الجو الممتع وماذا سيتناولن من أطباق شهية فسال لعابها وتحرقت لوقت انتهاء المحاضرة المملة التي ستقضي الوقت أثنائها في مشاهدة فيديوهاتها المفضلة وسماعها بسماعة تزرعها في أذنها خلف شعرها المصفف فلا تراها الإستاذة 

وقفَ صامتاً تحت المطر في مقابل المبنى ٢١، وتبللّ خديه بالدموع السائلة من قلبه النازف ينتظرها حتى تنتهي المحاضرة ليأخذها مع رفيقاتها للمقهى. شيء ما جعله ينظر لهاتفه. وصله تسجيل ابنته مُشرقاً فرحاً: بابا! بابا! لقد أخذت الممرضة مني تحليل دم وسكري طبيعي. امطرت دموعه بشدة عندما تذكر زوجته الراحلة بسبب داء السكري وحمد الله إن المطر والقهر جلبا له خيراً.   

كتابة ورسم: نجاة الشافعي 

يناير ٢٠٢٣م

عبرتُ الشط

وقفتُ مرتعبةً في صفٍ طويلٍ ملتوي يتحركُ بتثاقلٍ وبطءٍ، يحاولُ البعضُ اقتحامَهُ فيطردهم المنتظرينَ المتململينَ بفضاضةٍ ليلتحقوا بالصفِّ من جهةِ ذيلِه. كنتُ وأختي نسير في صفٍّ يحمِلُ لافتةً مخططةً مكتوبٌ عليها (الأجانب) موازيٍ لصفِّ (المواطنون) الذي كانَ يسيرُ بخفةِ ورشاقةِ ظبيٍ يتمايل في حدائقَ غناءٍ

 

تأكدتُ وأختي من كافةِ أوراقنا الرسمية: جوازُ السفرِ، الأُذّنُ الذي استحصلنا عليهِ من بلدِنا، ورقةُ تطعيماتِ الكورونا والفيزا التي دفعناها عندَ الوصولِ. كنتُ مذعورةً أنتَفِضُّ كَطَيرٍ تَبَلَلَّ رِيشُهُ، وبانَ عليّ الارتباكُ في رعشةِ يدِي ونظراتِي الوجلةِ. حاولتْ تهدئتي أختي التي تَصغِرُنِي عمراً وتَفُوقَنِي طُولاً. رَبَتَتْ على كتفِي مِن خلفِي فهي تَعرِفُ طبيعتي القلقةِ، وأنا أعرِفُ طبيعتَها الصَلبةِ. حدثتني نفسِي معاتبةً: هي أقوى منكِ قلباً وقالباً، لماذا لمْ تدعيها تتقدمُكِ لتصيرَ هي في فِوهَةِ المدفعِ بدلاً عنكِ؟! يا لقلبُكِ الرقيقِ! تتصرفين دائما كأنكِ أمُّها

 

وفجأةً انزلقت حقيبتي الثقيلةُ مِن على كتفِي، وسقطتْ على الأرضِ مُحدِثَةٌ جَلْبَةٌ، وتناثرتْ أغراضِي حولُها. التفتْ إلينا بفضولٍ امرأةٌ عجوزٌ تسبِقُنا في الصفِّ، وابنُها قصيرُ القامةِ الذي يدفعُ كرسيَّها المتحركِ بمشقةٍ، وسَلَطَّ نظَرَهُ على أشيائِي أحدُ عمالِّ النظافةِ بلباسهِ الأزرقِ المهترئِ لكنَّهُ لم يحركْ ساكِناً. أصابني الذهولُ وتجمدتُ في مكاني. سارعتْ أختي بجمعِ حوائجِي، وعَلَقَتّ الحقيبةَ ثانيةً فوقَ كتفِي. شدّتْ على يدي المتعرقةِ هامسةً في أُذُنِي: أختي، أرجوكِ اهدأي، لم يحدثْ شيئاً! وأضافتْ لتخففَ حَرَجِي: حقيبتكُ ثقيلة، مثل أمي تجمعين فيها كلِّ ما تحتاجينهُ وما لا تحتاجينهُ من عدّةٍ وعتادٍ

 

زادَ من تَوَتُرِي أنّ مُفتِشَّ الجوازاتِ الأصلعِ ذو الأنفِ الطويلِ المعقوفِ ما فَتِئِ ينظرُ إليّ شَزْرَاً كطيرٍ جارحٍ عَبَرَ الحاجزَ الزجاجيَ الفاصلَ بيننا وبينه لينقضَّ عليَّ. أحسستُ به يحاولُ أنّ يخترقَّ دماغي لِيَسْبُرَ أغوارَهُ، ويقتنِصَ أفكاريَّ الضالةِّ. كنتُ حينئذٍّ على وَشَكِ أن أعترفَ: نعم! أنا! أنا مَنْ فعلت ذلك! كنتُ على وَشَكِ أن أقدمَّ له معصماي ليكبلَّهُمَا بالأصفادِ، كنتُ سأقول ما يريدُ لأهربَ من نظراتِه الحادةِ، وليرحَمَنِي من وقوفي الطويلِ في الطابورِ مُنتظِرَةٌ حُكمُهُ عليَّ.  

 

أشتدَّ قلقَي طيلةَ تقليبِهَ في صفحاتِ جوازِي ثم بحلقتِهِ في شاشةِ الكمبيوتر. قلتُ ساهيةً بدون أدنى تفكيرٍ، وكالمنومةِ مغناطيسياً توالتْ اعترافاتِي: أميّ من هنا.. ولدت هنا.. عاشت هنا حتى تزوجت والدي.. كانَ عمرُها عشرين سنةً.. أمي يتيمة.. فقدتْ والدتَها وهي صغيرةٌ.. أمي مريضةٌ.. لديها أخٌ وأختٌ.. خالتي مريضةٌ. جئنا لنزورها.. خالي سيستقبلُنا 

 

لم أكُنّْ مُتأكِدَةً إِنْ كنتُ أتخيّلُ أمْ أنَّ صَوتِي قد خرجَ من حُنجَرَتِي بالفعلِ فأحدثَ ذبذباتٍ في الهواءِ وانتقلتْ الموجاتُ الصوتيةِ لصيوانِ أُذُنِ المفتش لأنهُ لمْ يَنْطُقْ بِبَنْتِ شفة وحتى لم يرفعْ رأسَهُ أو ينظرْ إليّ. وبعدَ تجمُدِهِ لفترةٍ من الزمنِ خِلتُهَا دهراً رفعَ يدَهُ لِيهُشَّ ذبابةً طاردتهُ من كلِّ حدبٍ وصوبٍ، حَوَّمَتْ فوقَ رأسِه ثم حطّتْ على أرنبةِ أنفِهِ، وبعدها انزلقتْ فالتصقتْ بشاربِهِ الكثيفِ. حركّ يديِهِ بضراوةٍ يميناً وشمالاً ليوقفَ هجومَها وبانَ عليه الحَنَقُ فضَغَطَ على أزرارِ الكمبيوتر بعصبيةٍ ثم غادرَ كرسيَّهُ، وظلّ مكانُهُ فارغاً بارداً.

 

استدرتُ ونظرتُ لأختي خائفةً إنّ تقعَ مُصيبةٌ فوقَ رأسي، فقد يقبضون عليّ بتهمةِ الثرثرةِ أو التهكمِّ أو الجرأةِ الزائدةِ وتجاوزِ حدودِ اللباقةِ والأدب. وَبَخَتْنِي أختي حينئذٍ بصوتٍ خافت لئلا تسمعُنا المرأةُ وابنُها وعاملُ النظافةِ: "مجنونة! لماذا تكلمتي! لقد قامَ من مكانِه!" أجبتها: "لا.. لا أدري! لا أدري! خرجتْ (اللكماتُ)، أقصدُ (الكلماتُ) بدونِ قصدٍ مني! صدقِيني!" واصلتْ تقريعِي: "هل يضُرُّكِ لو لَجَمْتِي لسانَكِ حتى ينتهي؟! هل سيتعاطفُ معكِ لأن أمي من هنا! ألا تعلمين إن هذا ربما سينقلبُ علينا. هل فكرتي ماذا سنفعلُ إن سمحوا لي بالدخولِ ولم يسمحوا لكِ، ستُرغميني حينَها على العودةِ معكِ لأن أمي لا تسمحُ لي بالسفرِ لوحدي."

 

منذُ عزمْنَا على السفرِ، صارتْ أُمِّي تشتري لخالي الهدايا التي يُحِبُها. أميّ مِثْلُ أمِّهِ يُسَميِهَا: (دادا) باللهجة العراقية فقد رَبَّتُهُ عندما ماتت أمَّهُما وهو طفلٌ رضيعٌ قبل أن يَسْتَلَّهَا أبي من حُضنِ مدينتها الكبيرة ويأتي بها إلى بلدتِنَا الصغيرةِ. ابتاعتْ لهُ قُمصانَاً أكمامُها طويلةٌ ولونُهُما داكنٌ لأن الأكمامَ القصيرةِ والألوانَ الفاتحةِ للشبابِ والمتصابين وليست للرجالِ مِثلَهُ كما يقولُ خالي. وابتاعتْ خمسَ زجاجاتٍ من العطرِ الفرنسيِ الثمينِ ليُهدِيها خالي لرفاقهِ الذين ينتظرون مِثْلُهُ هدايا أمي، وساعةُ سيكو يابانيةٍ ضدَّ الماءِ التي يُبجّلُها لأنها دقيقةٌ في حسابِ الوقتِ ولا يُعشعشُ في ثناياها الماءُ، وثوبان أبيضان على النمط المحلي، لكن هلّ زادَ وزنُه؟! من الصعبِ تحديدُ مقاسُه لذلك أخذتْ له مقاساً قد يكونُ أكبرَ من حجمِه ليمكنَهُ تصغيرُهُ إنْ لَزِمَ الأمرُ، وابتاعتْ عباءةً غاليةً وثوباً أخضراً لخالتي وهدايا لباقي الأهل والمعارف، وبالكادِ استطعنا أنا وأختي أن نُغلِقَ حقائبَنا.

 

لم أَرِثْ من أمي كَرَمُها الحاتمي أو لهجتُها الساحرة أو تُرَابِيَتُها، فقطٌ شيءٌ يَسِيرٌ من ملامحِها فلقد تمازجَ بياضُها الثلجي بِسُمرةِ والديِ النَخلّي لأُصبحَ (حِنطاويّة) كما تَصِفُني، أما أختي فتشبهُها أكثرَ مني. ورغمَ ضَعْفِها بسببِ المرضِ والتقدمِ في العمرِ، ما زالتْ سَمِحَةَ الوجهِ تتمتعُ بعضلاتِ ذاكرةٍ فولاذيةٍ فتشدُنا إليها بتفاصيلٍ حميمةٍ عن طفولتِها وشبابِها قبل الرحيلِ، تترنمُ بكثيرٍ من الأغاني التراثيةِ القديمةِ مِثْلُ (عمي يا بيّاع الورد … قلي الورد بيش .. قلي) و(لا خبر لا.. جفيه لا.. حامض حلو.. لا شربت)، وتعشقُ (ست الحبايب) لفائزة أحمد، وحين تسمعُها يهبّ نداءُ العشقِ في روحِها فتصُبَّان عيناها دمعاً حارقاً. 

 

ليلةُ السفرِ انقلبتْ حُزناً حين قالت: أستسافرانِ بدوني! أخفينا دموعَنا التي ترقرقت رَغمَاً عنا لئلا نُفَاقِمُ شجونها. قالتْ لتبرر سببَ غيابِها: تمنيتُ أن أكون معكما لكنَّ الطبيبَ لم يمسحْ لي! حاولتُ تهدئتَها: "يمه، ستتحسنُ صحتكِ وتسافري معَنا في المرةِ القادمة." أجابتْ بحدةٍ كرصاصةٍ انطلقتْ من محجرِها فاخترقتْ ضلوعي: "لا تكذبي علي!! أخي ووالدي وأختي ماتوا جميعُهم.. لمْ أتمكن من رؤيتِهم.. لم أودعْهُم.. أو حتى حضرتُ جنائزَهم.. أدعي لي أن أموت! الحياةُ مع المرضِ موتٌ بطيءٌ!"

 

احتضنتُها بمحبةٍ، ومسحتُ على شعرها الأبيض: "يمه، عيني ما بكِ؟ أنتِ جميلةٌ! أنتِ وردةٌ! لا نستغني عنك! سأجلبُ لك الحلقوم والملبس والزلابية التي تُحِّبِينَها، وسأصورُ كلَّ الأهلِ لترينهم وكأنكِ معهم. تهللتْ أساريرُها، وأضافتْ: لا تَنْسَي قولي لِخالتُكِ أنْ تطبخُ لي خُبْزْ لَحَمْ وتِمَنْ كَلَمْ وأحضريهم معكِ. ضمتْ أختي صوتَها لصوتي: أجل! أجل! سَنُحضِرُ لك كلَّ ما ترغبينَ بهِ. صدقيني!

 

ضحكتْ أمي فبانتْ ثغراتٌ عديدةٌ في مَحَلّ أسنانِها الساقِطة. استحتْ فأطبقتْ شفتيها، وغطتْ فمَها بكفِّها الأيسر. ثم دعتْ لنا بقلبٍ نقي: الله يوفقكم ويحفظكم، سلموا على خالكم وخالتكم و...! وعددّتْ أسماءً كثيرةً لنساءٍ تعرِفُهُن لا ندري هل ما زلنّ على قيدِ الحياة أو توارينّ تحتَ الثرى. كتبتُ قائمةَ الأسماءِ حتى أسألُ عنهنّ خالتي، وأضافتْ: وصيتي أختُكِ! حِطِيهَا بعينك وديري بالك عليها*!

 

راقبتُ المفتشَ من بعيدٍ واقفاً يشيرُ بيدهِ في اتجاهي، ويتناقشُ بحدةٍ مع شخصٍ يلبسُ ملابساً مدنيةٍ، ويجلسُ على كرسي من الجلدِ ثم دسَّ الجالسُ يدَه في جيبِ سترتِه، ومنحهُ سيجارةٌ فهدأتْ سورةَ غضبِه واسترختْ أساريرُه. دخنَها حتى آخر رمقٍ فيها نافثاً دخانها بتؤدة وهو ينظرُ لِطلاءِ السقفِ المتآكلِ، وأنا أراوحُ بِنَظَرِي بينهُ وبينَ المقعدِ الخالي وساعةِ الحائط، وأعدُّ الدقائقَ عداً، وكلّما تأخرَ الوقتُ، راودني الشكُ إننا سنتمكنُ من عبورِ الحدودِ للقاءِ خالي الذي سيجيئُ لاستقبالِنا برفقةِ ابنهِ الوحيد.

  

توقفَ الوقتُ برهةً في انتظارِ عودتِه، وبعد جلوسِه على كُرسِيّهِ عادتْ الحياةُ، تثاءبتْ الساعةُ، ودارتْ عقاربُها. فتحَ جوازي وأمسكَ بالختمِ، طارتْ يدُه عالياً كأنها لامستْ السقفَ المرفوعَ ووصلتْ قممَ السحابِ، ثم هبطتْ كصقرٍ يسابقُ الريحُ لينقضَّ على طريدتِه، وكأني سمِعتُ مِطرَقَةِ الختمِ تُزلزلُ وتُهَلِلُ طرباً: أنتِ بريئة!! اصطنعْ المفتشُ ابتسامةً مقتضبةً، وخرجَ من حُنْجِرَتِه صوتٌ آليٌ رتيبٌ: مرحباً عيني بكِ في بلدكِ الثاني! شكرتهُ بحرارةٍ فائقةٍ لم تهزّ بُرودَةَ ملامحهِ الزجاجيةِ، ولم أعبأ بذلك لأني كُنتُ أبحث عن الذبابةِ التي أقامتُه من كُرسِيِّهِ مُحْتَدَّاً فذهبَ للجالسِ ونفثَ همومَه في قِطرانِ سيجارةٍ، كنتُ أبحثُ عنها لأشكُرَها على حُسنِّ صنيعِها لكنها اختفتْ ولم أجدُ لها أثراً.

 

طِرتُ فَرَحاً. ستطأُ بعد قليلٍ قدماي الأرضَ المقدسة، أرضُ أمي وأجدادي، سأخلعُ نعليَّ وأدخلَ الجنةَ الموعودة. سأتحسسُّ ذكرياتَ أمي عن كثب، وأعيشُ أحداثَ قصصِها وأقابلُ أبطالَها، سأجوبُ الدربونه* التي يقعُ فيها بيتُ جدي، وأتجولُ في الحيّ الذي ترعرعتْ فيه، سأشبِعُ نهمَ عينيّ وشغفَ أذنيّ من كل ما افتقدتهُ أمي، سأكونُ حواسَها المتلهفةَ شوقاً وقلبَها النابضَ حباً، سأتذوقُ ما تحبُه من أصنافِ الأشربةِ والأطعمةِ الشهيةِ في الموائدِ العامرة: القيمر والقيمة والمرقة والقوزي والكبة والدولمة وتمن الشبنت وتمن التاكين والفسنجون، سأغرّد مع البلابلِ فوقَ نخلَتّي جدي اللتين يلامسُ سعفُهما السطحَ حيث ينامون متلحفِين بالسماء، سأصلي في المسجد خلف جدي عند الفجر، سأزورُ رفيقاتِ أمي وأبلغهنّ سلامَها، وسأخاطبُ كلَّ من أضأنهُ فِرَاقُ الأحبةِ: جئتكُم بهدايا أمي ورسائِلِها وحَنينِها.

 

آه، أيها الشطُّ المهيبُ! عندَّ شاطئِك سأودّعُ المغادرين وانتظرُ الغائبين، سأراقبُ البلمَ* السارحُ فيك حتى يعود، أسمعُ أنشودةَ السيابِّ: مطر.. مطر.. مطر.. يشدو بها خالِي تحوطُ به ثلةٌ من رفاقه يمخرون عبابَ النهر، سأجلبُ لأمي قارورة من مائك، ماءُ الحياةِ والذي تقولُ عنه أمي: "إنَّ كُلَّ الماءِ الذي شَرِبْتُهُ في حياتي لا يُشْبِهُ ماءَ الفراتِ

 

انتشلني صوتُ بكاءِ طفلٍ. وقفتُ منهكةً في رأسِ المدخلِ انتظرُ أختي على أحرِّ من الجمرِ ولم تصلْ. رأيتُها من بعيدٍ تجرجرُّ قدميها وتعودُ أدراجَها. ما الذي حدث؟! خِفْتُ أن أصرُخَ بإسمِها، لوحتُ لها بيدي لكنها لم تكنْ تنظرُ في اتجاهِي. صحوتُ من سكرةِ الأشواق. تنازعتني رغبتان: العودةُ أو العبورُ، إما أن أفي بوعدي وأحضرَ لأمِي الحلقومَ والملبس والزلابية، وخُبزَ وتِمَنَّ خالتي وأخبارَ رفيقاتِها أو أن أحفظَ وصيتَّها ألاّ أفارقَ أختِي، حينَها انتابني شعورٌ إنَّ أُختِي تجاهلتْ أن تَنظُرَ لي عمداً لِتُفسِحَ لي الطريقَ لكيلا تُثنِي عزمِي فأعودُ برفقتِها

 

خاطبتُ أمي وأنا واثقةٌ إنها ستسمعُني 

عراقيٌ هواهُ وميزةٌ فينا الهوى خَبَلُ

يدبُّ العشقُ فينا في المهودِ وتبدأُ الرُسُلُ

 

وعبرتُ.. عبرتُ.. عبرتْ.. الشط

 

نص ورسم

نجاة الشافعي

٧ يناير ٢٠٢٣م

قصةٌ كتبتُها عندَ افتتاحِ خليجي ٢٥ الذي أقيمَ في البصرة؛ حيثُ أذكَى هذا الحدثُ الكرويُ في قلبي الحنينَ لوطنِ أمي، وذكرني أيضا بالمرحومِ أبي، عاشقُ كرة القدم وهداف نادي الخليج سابقاً في لعب كرة القدم

A3 رسم قلب الحياة لنجاة الشافعي ألوان اكريلك على ورقم

هدف لن ينسى


هَدَفٌ لن يُنسَى

في ذروة الحدث الكروي العالمي نسى مضاضة فقره، وسغب فلذات كبده وفواتير البقّالة والماء والكهرباء والأجار التي كسرت ظهره، وانمسحت من شريط ذاكرته صورة رفيقة عمره التي قضت بالسرطان، وهو يراقب الكرة باستمتاع تتقاذفها أقدام الحُوَاة من منتخب البرازيل، يهتف لهم بصوت حماسي ينبثق من صميم روحه ليفوزوا على خصمهم اللدود، الأرجنتين.

كان يشاهد شاشة التلفاز بعين واحدة التصقت بخرم في زجاج نافذة المقهى الخلفية، يسترق النظر لأنه لا يستطيع أن يدفع ثمن المشروبات ليدخل حرم المقهى الباذخ الذي ملئه مشجعي الكرة عن بكرة أبيه، ورغم ذلك صارت تلك الفُرْجَة الضيقة مركزاً للكرة الأرضية تضيئها شمس فريقه الأصفر، ويطوف هو حولها.

لم تَطُل متعته، فلقد تصدّع ظهره ألماً، وعندما استدار قليلاً رأى الآخر رافعاً قدمه محاولاً أن يركله مرة ثانية ليحّل محله لمشاهدة المبارة فقاومه مقاومة عنيفة ودفعه وأطاح به؛ لا يمكن لأحد أن يسرق مكانه أو يحتلّ مركزه أو يتفرج على فريقه غصباً عنه. حاول الآخر بكلّ ما أوتي من قوة أن يزحزحه، ولم يستطع لأنه زرع قدميه في الأرض كالأوتاد، وصمد للهجوم كجبل راسخ.

غضب خصمه من عدم تمكنه من دفعه مهما حاول فأطبق فكيه على كفه اليمنى التي تتشبث بمقبض النافذة. عضه بشراسة كلب مسعور فسال دمه ملطّخاً قميصه الأصفر الباهت ذي الرقم ١٠ الذي أدمن لبسه منذ شبابه تشجيعاً لفريق البرازيل الذي يعرف أسماء لاعبيه وأعمارهم وأطوالهم وأوزانهم، وكل دقيقة في حياتهم، وأرقام القمصان التي يرتدونها، وتاريخ الفريق الأسطوري، والبطولات التي أحرزها وكل شاردة وواردة عن الفريق.

اجتاحه تيار جارف من الألم فترنح رغم أنفه، وسقط على الأرض، وحينها علا صوت المعلّق خالد الحربان جهورياً صارخاً بحماسة منقطعة النظير: ضربة جزاء، هههه، بلنتي! بلنتي! الامبراطور بيليه سيقوم بتسديد الرمية القاتلة!!

انتهز عدوه فرصة سقوطه فسيطر على مركز العالم ينظر للتلفاز بعين واحدة، وهو ما زال مُمَداً يتأوه من شدة الوجع، والدماء تنزف من أصابعه وتغرِق قميصه. انتابته نوبة غضب عارمة، فأولاً، هو من جاء قبله لينظر من فُسحَة الأمل، وثانياً، فوز فريق البرازيل هو آخر ما تبقى من أحلامه التي نَفِقَت واحداً واحداً. أمسك بحجر ملقى بالقرب منه. لم يتردد. قذفه بكل ما أوتي من قوة. شجَّ رأس الآخر، وشخِبت الدماء. ترنح وسقط بينما المعلق يصرخ مهتاجاً: جول.. جول للبرازيل! تسديدة في المرمى! الأسطورة بيليه يحقق النصر للبرازيل! أبطال أيها البرازيليون! أبطال!

صرخ مع المشجعين في المقهى مبتهجاً ناسياً الألم، ومتناسياً الرجل الذي طرحه أرضاً غارقاً في بركة من الدماء: "جول.. جول فزنا، كسبنا البطولة! أبطال!" ثم أمسك بكأس البطولة الذهبي يحتضنه، ويقبله بفرح جامح، رفعه عالياً لتراه الجماهير، ودموعه كالمطر تتصبب على خديه وتبلل شاربه ولحيته الكثة، وياقة قميصه المحمر، والجماهير تحمله فوق الأعناق، ويطوفون به حول الملعب.

انتهت المُبارة وغادر اللاعبين الملعب وبعض من في المقهى، وهو ما يزال واقفاً أمام النافذة رافعاً كلتا يديه فوق رأسه يتأرجحان يمنةً ويسرةً إلى أن أفاق خصمه، ودبتّ فيه الحياة. نهض مترنحاً، ورفسه للأمام بكل ما أوتي من قوة فتحطم زجاج النافذة في وجهه واندفع بجسده إلى داخل المقهى. اِلتفّ حوله من تبقى من المشجعين يصوبون سهام نظراتهم إليه بين أشلاء الزجاج المتناثر، وهو ما زال متقرفصاً محتضناً الكأس باستماتة مدافعاً عنه حتى آخر رمق لئلا يسلبه أحد من فلذة فؤاده.

 

 

 

 

 

 

ّ

 

تأبين العام الجديد

تأبينُ العام الجديد

لوحة نجاة الشافعي

هذه السنة

٢

٠

٢

٣

اِحتِفَالُها مختلف

أسدلت شعرها

ارتدت فستاناً أحمراً

لم تفعلْ شيئاً في تأبينِ السنة الجديدة البتة

سِوَى إنها أشعلتْ

٣

٦

٥

شمعة

ثم أطفأت أيامها ولياليها كلّها

واحدة

واحدة

واحدة

حتى آخِرَ رمق

كم شعرتْ بفرحٍ لا يُوصَفْ

نجاة الشافعي